الاثنين، 3 يناير 2022

Titane: صورة دموية لمجتمع لا إنساني

 


ما هو الإنسان؟ نجد في التاريخ الفكري البشري محاولات متنوعة لوصف طبيعة الكائن الإنساني من منظورات فلسفية مختلفة، تارة نجده حيواناً ناطقاُ أو مفكراً وفي أخرى نجده حيواناً اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً وغيرها من التعريفات ذات الطبيعة الأحادية، هذه المحاولات -بطبيعتها- مختزلة وغير شاملة. زاوية أخرى لتعريف الوجود الإنساني هي تعريفه بطريقة "سلبية"؛ بدل السؤال عن الصفة التي تمنح الإنسان طبيعته يمكن أن نسأل بشكل عكسي: ما الذي ينزع منه إنسانيته؟ نجد مقاربة من هذا النوع في كتاب تزيفيتيان تودوروف (الحياة المشتركة) الذي يركز على علاقة الإنسان بالآخر، لا يمكن تصور حياة إنسانية بلا وجود للأخر، سواء من ناحية قدرة الإنسان البيولوجية على البقاء أو من الناحية النفسية. فيلم Titane للمخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو هو فيلم عن معنى ألا تكون إنساناً. الفيلم الفائز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان هو أحد أكثر الأفلام الصادمة والمزعجة التي شاهدتها منذ زمن طويل، ومن التجارب النادرة التي أشعرتني بغثيان حقيقي بعد المشاهدة. الصادم بالنسبة لي في فيلم تيتان ليس المشاهد الدموية أو الجنسية المزعجة أو المقززة، العنف والغرابة يمكن أن تكون سمات بشرية أيضاً، الصادم في الفيلم هو خلوّها من البشرية تماماً، كل فعل صادم في الفيلم هو مفرغ من الحياة، يمكن تفهّم (وانتقاد) أعمال العنف النابعة من عواطف إنسانية كالحقد والانتقام، لكن أعمال العنف المفرغة من أي شعور إنساني والنابعة من كراهية الحياة تثير شعوراً بالغثيان. أثناء مشاهدة الفيلم أثارت طريقة تقديم الفكرة استهجاني، وكنت على وشك مغادرة القاعة في نصف الفيلم، لكن عند نهايته وجدت أنني أتفهم دوافع هذا الاختيار؛ لنقد مجتمع تتلاشى سماته الإنسانية شيئاً فشيئاً، قد يكون الخيار الأنسب هو تقديم عمل ناقد بطريقة فجّة وبشعة.

الحاجة الإنسانية لوسط حاضن وعلاقات اجتماعية مشبعة هي حاجة لا فكاك منها، وما نجده في هذا الفيلم هو صورة لمجتمع تتلاشى فيه القدرة على تكوين هذه الروابط إلى الدرجة التي يحدث فيها الانفصال الكامل بين الإنسان ومحيطه. كل مجتمع انساني له تركيبته الاجتماعية الخاصة التي تحفّز أنماطاً معينة من العلاقات والتصرفات والمشاعر وتنفّر من أنماط أخرى، وتترك هذه التركيبة بالضرورة أثرها على الأفراد، ينطبق هذا الأثر على المجتمعات البدائية كما ينطبق على المجتمعات الحديثة، حيث نجد نماذج لمجتمعات تتماثل في طبيعتها الحضارية يميل بعضها للعنف مثلاً بينما نجد في أخرى طابعاً أكثر سلمية. في المجتمع الصناعي الحديث، قد يكون الفارق الجوهري هو ضعف العلاقات الاجتماعية (الحقيقية) إلى درجة التلاشي. في مجتمع يقضي الفرد فيه ما متوسطه 9 ساعات يومياً في مهنة لا تترك فيه أي شعور بالرضى، ويعاني من ملل وقلق دائمين يولدان رغبة مستمرة بالهرب، يلجأ الإنسان إلى متنفسّات مختلفة: انتماء هوسي لفريق كرة قدم، علاقات عشوائية، سلوك إدماني، هوايات، أو المزيد من العمل، ويبقى رغم ذلك غالباً شعور طاغي بالضجر وعدم الإشباع. وأكاد أزعم (يا رب يسلكون لي أهل طب النفس لأني مو متخصص) أن أصل كل الاضطرابات النفسية هو في اختلال التوازن بين الإنسان ومحيطه وفشله في تكوين علاقات مشبعة وكافية لمنحه الاستقرار النفسي. لذلك في مناقشتي لهذا الفيلم لا أتصوره كفيلم عن العنف أو الاضطراب، بل هو فيلم عن الوحدة بالدرجة الأولى، الوحدة التي لا تعزل الفرد عن مجتمعه فحسب، بل تحرمه القدرة على تكوين الروابط الإنسانية أساساً. في الفيلم نجد صورة تقليدية لطفلة في مجتمع غربي حديث، غير قادرة على التواصل الحقيقي مع والديها، تغوص في عالمها الخاص إلى الحد الذي تنفصل فيه تماماً عن محيطها.

يتناول الفيلم حالة البطلة (اليكسيا)، ويستهلّ بمشاهد قصيرة من طفولة أليكسيا قبل الانتقال إلى حياتها كبالغة، في المشهد الافتتاحي نراها كطفلة في المقعد الخلفي للسيارة، تحاول لفت انتباه والدها بمحاكاة صوت محرك سيارات السباق، يظهر في المشهد انفصالها عن والدها كوضع مستمر، ويشير إلى ولعها الانسحابي بالسيارات الذي يسبق حدوث هذا المشهد (والذي سيتمحور حوله الفيلم) ويشكل المشهد أول مفترق طرق في رحلة انسلاخ اليكسيا من بشريتها، عندما يتجاهل والدها لمحاولاتها ويفشل تمردها في لفت انتباهه تنتقل للمرحلة التالية من التمرد حيث تحاول الهرب للمقعد الخلفي وعندما يحاول منعها يتعرضان لحادث تحتاج بعده لجراحة في جمجمتها وتثبيتها بمادة معدنية، تخرج من المستشفى بعد الجراحة لتقبّل السيارة. في ظل عدم شعورها بالحماية الأبوية أو الأمومية تصبح السيارة هي المنقذة والراعية لها، وبوجود المعدن في رأسها تشعر بالاتحاد مع الآلة. ننتقل من هنا مباشرة إلى أليكسيا الشابة، راقصة متعرية تغري زمرة من الرجال المهووسين بممارسة الرقص الجنسي فوق سيارة. أليكسيا تمعن في انفصالها عن طبيعتها البشرية والتحامها بالآلة لتصبح سلعة هي الأخرى.

إلى حد الآن لا تتبع حياة أليكسيا مساراً استثنائياً، يواجه الإنسان في حياته الكثير من النماذج المتخبطة واليائسة، وفي أسوأ الحالات ينجح المرء في البقاء مع حفنة من العلل النفسية والأمراض المزمنة والمحاولات الدائمة للهرب. يبدأ الفيلم في الانعطاف في مسار جنوني في اللحظة التي تتعرض فيها أليكسيا للتحرش من أحد الرجال الذي يترددون على عروضها، لا يقبل الرجل بامتناعها ويصر على محاولة اقناعها بإعطائه فرصة، يقبّلها داخل السيارة وتبادله القبلة بشغف إلى الحد الذي يظن المشاهد أنها ستطارحه الحب في نفس المكان (محاولة يائسة للشعور بالاثارة ربما؟) لكن ينتهي المشهد بطعنة مباغتة من أليكسيا في رأسه. هناك فجوة في الفيلم ما بين طفولة أليكسيا وهذه الليلة، لكن يمكن الافتراض أن حياتها تمثل سلسلة متواصلة من الخيبات العاطفية والانفصال الدائم عنا المحيط، تتراكم هذه الاحباطات لتصل إلى هذه اللحظة التي يكتمل فيها تحولها إلى كائن لا إنساني، عندما تذهب للاستحمام تتلقى النداء من السيارة في مشهد سيريالي، تسير عارية ومبللة وتدخل إلى السيارة لتمارس الجنس معها. تتحول الآلة إلى المصدر الوحيد للذة، الدفء، والانتماء. تتحول إلى البديل عن التواصل البشري الذي تعجز عن مد جسوره. بعد هذا المشهد تحاول اليكسيا بيأس استعادة جزء من انسانيتها بممارسة جنسية جديدة، ربما يكون السبب الرجال؟ قد تكون العلاقة المثلية هي الحل؟ تلجأ إلى زميلتها الراقصة، لا يمكن وصف الممارسة بينهما بالجنس بقدر ماهي محاولة متخبطة للإحساس بالدفء، تنغمس أليكسيا في صدر زميلتها بحثاً عن الحنان الأمومي الذي تتوق له. بالطبع، لا تفضي هذه المحاولات العشوائية إلى أي إشباع وتنتهي أليكسيا إلى نفس المحصلة الدموية؛ تقتل زميلتها وتقتل معها أي أمل في تحقيق اتصال عاطفي مع كائن بشري آخر، وتنطلق بعدها في حالات قتل مسعورة تنتهي أخيرا بقتل أبيها وأمها.

يجري الفيلم بالكامل من منظور أليكسيا، لا نكاد نجد أي مشهد الا مصوراً من وجهة نظرها، وهذا اختيار مفهوم لتصوير شخصية تعيش في عالمها الداخلي وتفشل في الارتباط بأي إنسان. في المرة الأولى التي نشاهد فيها مشهداً مقدماً من زاوية أخرى هي عند تقديم القطب الآخر في الفيلم: فينسنت، رجل في الخمسينيات من عمره، يعيش وحيداً وينتظر الوصول أي خبر عن ابنه المفقود منذ سنوات. تجد أليكسيا أن خيارها الوحيد للهروب من قبضة الشرطة بعد جرائم القتل المتسلسلة هي في التنكر كابن فينسنت. تقص شعرها وتكسر أنفها بنفسها في الحمام في مشهد مزعج ومثير للغثيان. مجدداً؛ كل مشهد منفر في الفيلم يتم تصويره بتفصيل دقيق، إلى الحد الذي تستشعر معه أن المخرجة تستمتع بتجسيد هذا العنف المرضي، قد يكون هذا الاختيار مزعجاً للمشاهد لكن كما ذكرت له أسبابه الفنية، وإن كنت لا أتفق معها تماماً. عوداً على فينسنت، نشاهده في مشاهد متعددة في الفيلم يحقن مؤخرته بإبرة ستيرويد في محاولة يائسة للحفاظ على شبابه ورجولته. مع فينسنت نشاهد نموذجاً آخر لشخصية غارقة في الوحدة وغير قادرة على تكوين روابط اجتماعية مشبعة، الرجل الذي فقد ابنه وانفصل عن زوجته، يتمحور ارتباطه الوحيد بالعالم في فرقة الإطفاء التي يقودها بحزم. محاولاته اليائسة لاستبقاء شبابه قد لا يكون سببها خوفه من التقدم بالسن، بل ربما هو الخوف من فقدان الرابطة الوحيدة التي يملكها مع العالم ومصدره الوحيد للإشباع العاطفي . الشخصية القاسية لفينسنت تتلاشى أمام احتمالية عودة ابنه. لا يهم أن يكون هو ابنه الحقيقي أم لا، لا يهم أن تكون فتاة أساساً، كل ما يحتاجه هو أن يستطيع منح الرعاية والاهتمام لإشباع عاطفته الأبوية. لا يحاول التحقق من هوية اليكسا ويرفض حتى النقاش بشأنها، بل يحتضنها بعطف وحنان. أليكسا بدورها تحاول الهرب بل وتقدم على محاولة قتله. لكن بعد سلسلة من التوترات، يفلح هذا الدفء الأبوي في استعادة أليكسا لشيء من انسانيتها.

طوال فترة بقاء اليكسا مع فينسنت نراقب بتوتر محاولاتها لإخفاء هويتها وإخفاء حقيقة حملها. تحمل أليكسا بعد ممارستها المحمومة مع السيارة ونرافقها في مراحل حملها وأثناء تسرّب الزيت من جنينها. الفيلم يقدم نظرة تشاؤمية للمجتمع الحديث، لكن هذا المشهد الختامي يجسد ذروة هذه النزعة التشاؤمية، تضع أليكسيا مولودها بمساعدة فينسنت، تلد انساناً بعظام معدنية، كائن جديد نصفه انسان ونصفه آلة، صورة مجازية لجيل قادم في مجتمع مفرغ من العواطف الإنسانية. نجد في الميثولوجيا الإنسانية شواهد متنوعة لاندماج الإنسان بالآخر، من البطل الذي نصفه إله ونصفه بشر في التراث الإغريقي، إلى الكائنات الأسطورية المتنوعة التي تنشأ من ثنائية الإنسان والحيوان، إلى الإنسان الذي أمه من الجن وأبوه من البشر في التراث العربي. جميع هذه الشواهد تشير إلى ارتباط الإنسان بالطبيعة أو بكائنات روحية متجاوزة للطبيعة لميلاد إنسان بطبيعة خارقة أو متجاوزة. بينما نجد الإنسان في النسخة الحديثة من هذه الأسطورة يتحد مع آلة بلا روح صنعها بنفسه، يتمحور حول نفسه ويغوص أكثر في عالم مادي تنسحب فيه العواطف البشرية والانشغالات الروحية إلى الهامش.

 

ملاحظات ملحقة على هامش المراجعة، زاويتين إضافيتين للنظر إلى الفيلم:

عن العنف: كما مر سابقاً، تولّد مجتمعات معينة أنماطاً متباينة من الاضطرابات والميولات النفسية. وأحد المقاربات لفهم دوافع العنف هي في تحليل جذور الاضطرابات التي تعززها مجتمعات معينة لتولّد أفعال العنف. في معرض تحليله للتدميرية البشرية -وإن كان تحليلاً محصوراً في ممارسات العنف التي تولّدها المجتمعات الغربية- يشير إيريك فروم إلى اضطرابين يؤديان دوراً مهماً في ميل او استسهال الأفراد لممارسات عنيفة تجاه الآخرين (أو تجاه الأشياء). الاضطراب الأول هو السادية، الرغبة في السيطرة على الآخر وإيذائه، والثاني هو النيكروفيليا، وهي تعني الانجذاب لكل ماهو ميت، جامد، وبلا روح. النيكروفيليا أساساً تصف الانجذاب الجنسي للجثث، لكن يمكن أن يمتد التعريف ليشمل كل انجذاب لما هو ميت وكره للحياة. حسب فروم، نستطيع أن نصف شخصية ستالين بالسادية، فستالين كان يتلذذ بتعذيب وإيذاء معارضيه، لكن في حالة هتلر فالنيكروفيليا هي الاضطراب الأقرب للصحة. في تحليله النفسي لشخصية هتلر يشير إلى أن شهادات كل معارف هتلر تؤكد بأنه في طفولته لم يكوّن أي علاقة إنسانية مع أقرانه وكان مهووساً بترتيب الدمى العسكرية واللعب بها.

شخصية أليكسيا تمثل تجسيداً مثالياً لهذا الاضطراب النفسي، الانجذاب العاطفي لآلة ميتة وعدم القدرة على تكوين انجذاب مشابه تجاه أفراد آخرين، أظن أن ما يحاول الفيلم قوله هو أنه مع مجتمع يسعى بشكل محموم لمراكمة المقتنيات المادية ويبقى أفراده في حالة انفصال دائم عن محيطهم، هذا النوع من الشخصيات لا بد ان يبرز (وإن كانت أليكسيا تمثل هذا الاضطراب في حالته القصوى). العنف الناشئ عن كره الحياة هو عنف أكثر وحشية وأقل تمييزاً، والخطر الذي يبرزه التطور التكنولوجي الحالي هو في إعطاء مساحة أكبر لممارسة هذا النوع الذي ينزع من الضحية إنسانيتها.

عن الحب في المجتمع الحديث: قبل حوالي سنتين شاهدت تقريراً إعلامياً عن فتاة تصرح عن حبها لطائرة، التقرير الذي يحتفي بهذا الحب الذي يتخطى كافة الحواجز الاجتماعية ولا يعرف شكلاً محدداً ويمكن توجيهه تجاه أي "شيء" كان غريباً وصادماً، وأظن أن فكرة الفيلم قد تكون مستوحاة من حالة مشابهة. الحب في هذه الحالة ليس من قبيل الحب العادي للأشياء التي نمتلكها، بل الحب البديل عن العلاقات البشرية، حب عاطفي وجنسي. يبدو أن الخاتمة المنطقية لتسييل الحب والميولات الجنسية ولهث الأفراد اليائس لتلبية حاجات غير مشبعة في أغرب المصادر الممكنة يكمن في ممارسة الحب مع الممتلكات المادية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...