الخط السردي الذي يتبعه المؤلف ينطلق من نقطة أبعد كثيراً بالمقارنة مع كتب التاريخ التقليدية التي تبدأ تأريخها بالحضارات الإنسانية المعروفة والتي نشأت في الهلال الخصيب وشمال أفريقيا خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة (أو بخلق آدم في حالة الكتب المنطلقة من أرضية دينية)، هذا التوسع في أفق الدراسة عائد بالتأكيد لتراكم المعرفة البشرية واكتشاف معلومات جديدة عن عصور ما قبل التاريخ. لكن لا يمكن أن نغفل عن الإشكاليات في دراسة هذه الحقبة. على عكس التاريخ الإنساني المعروف، حيث تستقى المعرفة التاريخية من التراث الإنساني، عند دراسة حقبة ما قبل التاريخ يتلاشى هذا الصوت الإنساني، ويتحول الانسان من صانع للتاريخ إلى مجرد مادة للدراسة. المعلومات القليلة المتوفرة من الأحافير لا يمكن أن تشكل مادة كافية لفهم الطبيعة الإنسانية في فترة ما قبل التاريخ. والمؤلّف نفسه يتفق مع هذا الرأي حيث ينتقد في أكثر من مرة النظريات التي تصف مجتمعات ما قبل التاريخ، ويقول أنها تعبر عن واضعيها أكثر من تعبيرها عن تلك المجتمعات، ولكن على الرغم من ذلك، فالمؤلف يقع في نفس الفخ ويخرج باستنتاجات عن الطبيعة الإنسانية مستقاة من هذه الحقبة.
في الحين الذي يواجه الباحث فيه إشكالاتٍ عديدة عند دراسة التاريخ الإنساني الذي تتوفر له مادة تاريخية ثرية بسبب تعقيد الطبيعة البشرية، والشك في مصداقية ودقة المواد المكتوبة، وفي تحيز مؤلفيها، وفي العوامل المتعددة التي تساهم في الحدث التاريخي، فإن دراسة تاريخ حقبة لا يتوفر عنها سوى كم محدود من المعلومات يحوي إشكالاتٍ أكثر. يزعم المؤلف من خلال تحليله لهذه العصور وما تلاها بعدم وجود شيء يمكن أن يسمى بـ"الطبيعة البشرية"، فكل ما هناك هو ببساطة عدد لا نهائي من الاحتمالات في الكون تشمل الطبائع الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ويختار البشر بطريقة أشبه ما تكون بالاعتباطية أحد هذه الاحتمالات. في هذه النظرة يصبح كلُ من القيم الأخلاقية والنظام الاجتماعي والسياسي مجرد إمكانيات عشوائية مفرغة من أي قيمة أو أهمية في ذاتها. النظام الاجتماعي هو مجرد خيال جمعي لضبط الحياة البشرية، كل ما هو غير مادي ينحدر إلى مرتبة أدنى في رؤية الكاتب. هذه الرؤية للتاريخ تضع الإرادة الإنسانية أيضاً في مكانة هامشية، حيث يسير قطار التقدم الإنساني بشكل مستمر بغض النظر عن تصرفات الأفراد البشرية، بالتأكيد الكاتب لا يتبنى هذه النظرة بالكامل، فهو يشير إلى التدخلات البشرية التي قد تغير مسار التاريخ أحياناً وإن كانت "غير مفهومة". يتبادر للقارئ أن هذه التدخلات الإنسانية هي أشبه بانتقال الالكترونات من مسار لآخر والتي لا يمكن التنبؤ بها ولا معرفة سببها. الإطار الذي ينظم الكاتب فيه تحليله للتاريخ البشري مفرط في المادية في رأيي، على الرغم من ثراء تحليله واحتواؤه على أفكار ذكية.
الزراعة: الخطيئة الأولى
يقسّم المؤلف التاريخ البشري إلى ثلاثة مراحل، ثورة الوعي التي انتجت الإنسان العاقل قبل 70000 سنة، الثورة الزراعية قبل 10000 سنة، والثورة الصناعية قبل 500 سنة. كل واحدة من هذه الثورات غيرت شكل الحياة البشرية بالكامل. لكن الفترة الأسعد في تاريخ البشرية -والسعادة هي القيمة الأهم لدى المؤلف- هي فترة ما قبل الثورة الزراعية، التي اعتمد البشر فيها على الصيد وجمع الغذاء. ففي هذه الفترة، لم يكن الإنسان مقيداً بمكان واحد، حصصه الغذائية متنوعة، ساعات "عمله" قليلة، ومعرفته بمحيطه تتجاوز الإنسان الحديث أو الفلاح. والخدعة الأكبر في تاريخ البشرية حسب المؤلف، التي هبطت بالإنسان من النعيم إلى الاستعباد والبؤس هي الزراعة. استقرار البشر في مجتمعات حضرية أدى إلى عملهم لوقت أطول، محدودية خياراتهم الغذائية، ومعاناتهم مع الأوبئة والحروب. يفترض هذا الطرح عدة فرضيات إشكالية: أولاً أن حياة الصيد والجمع هي دائماً رغيدة ووافرة. على الرغم من أن المؤلف نفسه يشير إلى انقراض أنواع حيوانية كثيرة فور وصول الانسان إلى أراضيها، استنفاد الموارد الحيوانية لا بد أن يؤدي في النهاية إلى حتمية البحث عن مصادر غذائية أخرى. ثانياً، أن الحياة التي تتمحور حول جمع الطرائد هي حياة مثالية للبشر، ويتجاهل هذا الطرح المنافع العديدة التي وفرّتها حياة الاستقرار ابتداء من اختراع الكتابة ومروراً بثراء وتنوع المعارف البشرية والناتجة عن مقدرة الإنسان على تسخير وقته في نشاطات تتجاوز البحث عن الغذاء.
في فصل لاحق في أواخر الكتاب يخصصه المؤلف للبحث عن السعادة البشرية، وعن أسبابها ووسائل تنميتها، والعصور الأسعد في تاريخ البشرية. نظرة الكاتب للحياة متأثرة بالفلسفة النفعية التي تقرر أن الخير الأسمى للبشر هو في "زيادة" السعادة لعموم البشر. هناك إشكالات في هذه الفلسفة متعلقة بمفهوم السعادة نفسه، جميع التعريفات التي حاولت تحديد هذا المفهوم لم تستطع الإلمام به، ولعل من أهم المغالطات في تحديد المفهوم هو ربط السعادة بالمتعة، لكونه إحساساً أبسط وأسهل للتحديد. في حين أن المتعة هي إحساس قابل للقياس والتكثيف ويمكن لحقل الدراسات العلمية الخروج باستنتاجات ذات دلالة عنه، لا يمكن تكثيف السعادة لأنها مفهوم لا يمكن تحديد ماهيّته، بل وحتى عند التعامل مع البشر كحالات فردية، لا أظن أن أغلب الناس يستطيعون تحديد أين تكمن سعادتهم (وهو ما يبرر انجراف معظم البشر في اللهث خلف المتعة رغم أنها قد تخلّف بؤساً أعظم)، وعند دراسة السعادة البشرية في المجمل، فالموضوع يصبح أكثر إشكالاً وتعقيداً. يتناول المؤلف مفهوم السعادة في البوذية ويمر بشكل خاطف على هذا المفهوم في ديانات وفلسفات إنسانية، ومن ثم يتناول دراسات علمية أجد بعضها سطحية جداً في طرحها لهذا الموضوع، شخصياً أتحفظ على هذا النوع من الدراسات وعلى منهجيتها غير المقنعة بالنسبة لي، بالإضافة إلى تبسيطها السطحي للتعقيدات البشرية، والذي هو ناتج طبيعي لمنهجية الدراسات العلمية في دراسة عوامل معدودة كمؤشرات لفهم موضوع الدراسة. لا أجد هذه المنهجية مجدية لفهم الطبيعة الإنسانية وإن كان هذا ليس مكاناً مناسباً للاستطراد في هذا الموضوع.
الحيوان الذي أصبح إلهاً
يفتتح المؤلف كتابه بفصل: الحيوان الذي لم يكن شيئاً، ويختتمه بفصل: الحيوان الذي أصبح إلهاً. يهدف المؤلف في كتابه لنقل تصور بانورامي للحياة البشرية (أو العاقلة) على وجه الأرض، والثيمة الأساسية لهذه الصورة هي التطور، ليس البيولوجي فحسب بل الاجتماعي والحضاري والعلمي. انطلاقاً من تشكل الوعي ومروراً بالثورة الزراعية واستقرار البشر ومن ثم الثورة الصناعية وما رافقها من تغيرت تقنية ومعرفية غيرت شكل الحياة الإنسانية، ويختتم كتابه أخيراً باستشراف المستقبل: تحول البشر إلى آلهة. يعيشون حياة أبدية بفضل العلم الذي يتغلب على الموت بشكل نهائي، يتمكنون من تعديل الجينات البشرية والتحكم فيها، بل وحتى إعادة خلق الأنواع البشرية البائدة، ويتوظفون تطبيقات الذكاء الصناعي في كافة نواحي الحياة، إن لم يحدث العكس بالتأكيد. ولا نستطيع التنبؤ بالمرحلة التي سيصل إليها قطار التطور الإنساني.
يشبه هراري في سرديته التواريخ الشعبية للدول القومية الحديثة، التي تنطلق من أبطال خارقين وقصة شعب حارب جيرانه لكي ينال استقلاله، وتعد بمستقبل مشرق للأمة. تهدف هذه التواريخ لخلق هوية وطنية وانتماء مشترك لدى مواطنيها، هراري أيضاً يسرد قصة شعب إنساني (العاقل في مقابل الأنواع الإنسانية الأخرى) الذي يبقى وحيداً وينقسم إلى شعوب وحضارات متنوعة، تعود في النهاية للتجمع تحت غطاء حضارة إنسانية موحدة. أحد أهم الاستنتاجات التي يخرج بها هراري هو أن التاريخ البشري يسير باتجاه الوحدة، ففي الحين الذي كان البشر قبل آلاف السنين يعيشون في حضارات وعوالم منفصلة تماماً عن الاخرين، يكاد عالم اليوم يحوي جميع البشر على وجه الأرض في حضارة إنسانية واحدة. وشيئاً فشيئاً تتلاشى قيمة الحضارات المختلفة، حيث اندثر معظمها الآن ولم يبق سوى مجموعات ثقافية كبيرة معدودة على الأصابع.
بلا شك يعد كتاب هراري كتاباً ذكياً وثرياً في مجاله، وقراءته هي تجربة مثيرة، يندر أن تجد كتاباً بهذا الحجم يستطيع استيعاب هذا القدر من الأفكار عن التاريخ والحاضر الإنساني، ولكن في الوقت نفسه، هذه الصورة البانورامية الهائلة قد تكون مضللة أحياناً، في الحين الذي تقع معظم أجزاء هذه الصورة في مرحلة تاريخية محدودة جداً بالمعلومات، أتساءل عن مدة دقة وجدوى إعطائها مكانة عالية في فهمنا للحياة البشرية. بالإضافة لذلك، مأخذي على الكتاب هو المادية المتطرفة لمؤلفه، حيث تشكل الحقائق البيولوجية المفاهيم الوحيدة الصلبة في عالم المؤلف، في الوقت الذي تبدو معظم المفاهيم الأخرى خيالية، عبثية، ومفرغة من المعنى.