الاثنين، 28 سبتمبر 2020

رحلة إلى الجنوب

 في بداية هذا الشهر قدّمت رسالة الماجستير منهياً بذلك عاماً شاقاً كانت الدراسة هي محوره الرئيس وخلا من الإجازات وفرص التقاط الأنفاس، بإنهاء الحمل الثقيل -المتمثل برسالة الماجستير- حل الصفاء الذهني محل التوتر والضغط، والأوقات المطوّلة التي كرّستها للدراسة تلاشت ووجدت نفسي أمام فراغٍ عذب لأمارس هواياتي وأستعيد اتصالي الاجتماعي بالبشر. فكرة السفر كمكافأة -كما أنها فرصة لتصفية الذهن- كانت مغرية، وفي الظروف الحالية كانت المنطقة الجنوبية وجهة مثالية (على طريقة الخطوط السعودية عندما اعتادت على شكرنا لاختيارها بينما كانت خيارنا الوحيد)، الوقت والظروف كانا مثاليين لتنفيذ المشروع المؤجل لاكتشاف منطقة مجهولة تماماً بالنسبة لي. كانت الخطة الأساسية هي القيام برحلة عائلية مع والدتي وأخواني، لكن مع الانسحابات المتتالية لم يبق سوى أنا وأمي، ولم يكن هناك سبب لإلغاء الرحلة.

والدتي مسكونة بهاجس زيارة الجنوب مذ عرفتها، تحدثنا دائماً عنها كمنطقة فردوسية وخلّابة، ذكرياتها المبهمة عنها من زياراتها القديمة يتزايد سحرها عاماً بعد عام، وتكتسب المنطقة ألقاً وجمالاً -ككل ذكرى جميلة نرعاها ونجمّلها في كل مرة نعود لزيارتها حتى تبدو أحياناً مختلفةً تماماً عن التجربة الحقيقية- ولكن، لم تكن رحلتا أمي السابقتين مثاليتين، تحدثني عنهما في الطريق الذي يبلغ طوله 1500 كم إلى الجنوب: في الرحلة الأولى قبل ما يزيد عن 50 عاماً حسب تقديري أنا، بينما تصر والدتي أن الرقم أقل من ذلك. تلت الرحلةُ وفاة جدي من أمي بينما لم تكن والدتي وإخوانها وأخواتها سوى مراهقين، ونظراً لخطورة الطريق رافقتهم عائلة من الأقارب. انطلقت القافلة الصغيرة المكوّنة من سيارتين صباحاً من الرياض، وبحلول الظهيرة، توقفت الرحلة -التي لابد وأن تستغرق وقتاً أطول بكثير مما اعتدنا عليه الآن- لتجهيز الغداء في ظل أحد "الكباري" على طريق الرياض-مكة. بينما يطبخ الغداء يتجه الأطفال للعب حول السيارة، لا تنسى والدتي أبداً مشهد قريبتها الصغيرة التي انطلقت تلعب قاطعةً الطريق لتدهسها أحد السيارات. توفيت الطفلة من فورها، تتذكر والدتي دائماً ذلك المشهد قبل ما يزيد عن خمسين عاماً: الأم البكماء للطفلة تتلوى على الأرض مصدرةً أنيناً صامتاً ومفجعاً في آن. الأم الصبورة كجمل، والتي اختارتها حماتها زوجةً لابنها لاعتقادها بأنها الوحيدة القادرة على تحمل طباع ابنها النزقة. استمعت بإذعان كما فعلت طوال عمرها لزوجها وهو يقرر دفن ابنتهما في القرية المجاورة واستكمال الرحلة، فمن مات مات، ولا شيء سيعيده أبداً. تقول والدتي أنه بعد مضي كل هذه السنين، معظم من عاش هذه الرحلة قد وافاه الأجل، لكن الأم البكماء لا تزال على قيد الحياة.

أما الرحلة الثانية لوالدتي فقد تلت زواجها من أبي وإنجابها لبضعة من أخواني. وفي هذه المرة أيضاً رافقتها عائلة أخرى، إذ يبدو أن السفر على هيئة أسراب من العوائل كان نمطاً طبيعياً في ذلك الوقت، على الأقل فيما يخص عائلتي. ونظراً لعدم توفر الخدمات "السياحية" فعائلة أخرى تتورط في هذه الرحلة: العائلة التي تتلقى برقية تخبرها بأننا قادمون للزيارة، والزيارة هنا تعني أننا سنتشارك معهم في بيتهم المتواضع والصغير. "القلوب صافية هكالحين" تردد أمي. العائلة المرافقة في الطريق هذه المرة كانت عائلة خالي، وانطلقت الرحلة على متن سيارة واحدة بدل اثنتين: ددسن غمارتين تقل على ظهرها الحديدي حوالي 13 شخصاً. الصغار يقضون الرحلة في الحوض المغطّى. أفكر بمشقة هذه الرحلة فيتصاغر في عيني إرهاق الطريق الطويل. ذكريات أمي من هذه الرحلة التي تعود ل35 عاماً مضت هي ما شكّل الرواية التي ترويها لنا عن الجنوب: طبخ الغداء بين الغيوم، والينابيع الطبيعية التي يأخذون منها الماء، فلا حاجة لحمل "جراكل" الماء في الجنوب، زوجة خالي التي تقوم بالطبخ ثم توّظف قدور الطبخ كطبول بعد العشاء لتغني بينما ترقص أخواتي وبناتها على أنغامها. تروي لي أمي هذه الحكايات ونحن نقترب بمحافظة الحناكية التي تقع على طريق القصيم-المدينة المنورة السريع، يواجهنا "عاصوف" في الطريق وأذكّر أمي بأنها علمتني في صغري بأن العاصوف هو عرس للجن، تلوم الأولين على توريث هذه الخرافات ونواصل الطريق.

عاصوف على الطريق

نشق طريقنا عبر سلسلة من الطرق الصحراوية التي تصل قرىّ متناثرةً ببعضها، نتقاطع مع طريق القصيم-المدينة السريع ثم نواصل السير، نتوجه هذه المرة إلى مهد الذهب. القيادة في الطرق الصحراوية -رغم خطورتها- تفتنني كثيراً، الطريق الذي تحفه المزارع، القرى الصغيرة، والماشية أحياناً. أتذكر "طرق ومدن" لأحمد الحقيل والفصل المفضل لدي الذي يتناول فيه الطرق الصحراوية النجدية، ويقارنها بالطريق السريع الجامد والذي يتجاوز كل مظاهر الحياة ليصل إلى وجهته بأقصر وقت ممكن، فيما تتمايل الطرق الصحراوية يمنةً ويسرةً لتقطع قرىً متناثرة ومنسية. أمر بقرية صغيرة قبل ساعة من المغرب، يفتنني منظر جدار بنشري مهجور، "كفر" يتكئ بكسل على الجدار الملوّث بكتابات موغلة بالقدم فيما شعاع الشمس الباهت يغطي أجزاءً من الجدار، الكاميرا بجانبي، أقرر العودة لالتقاط صورة أو فيديو لجدار البنشري المهجور، لكن نظرة إلى الساعة تغير رأيي، السباق الذي بدأته سيارتي مع الشمس في بداية الطريق يبدو محسوماً الآن: لم يبق سوى أقل من ساعة لكي تغرب الشمس، بينما لم أنتصف حتى الآن في طريقي إلى الطائف. أقرر المضيّ. لا بأس، في رحلة أخرى سأجد الوقت لتأمل كل منظر يستوقفني. أتعزّى بوهم أنه في يومٍ ما، سأنفذ كل هذه الخطط المؤجلة، سأصنع فيلماً قصيراً عن رحلة مشابهة، أو سأقوم بمشروع تصويري لالتقاط حياة الأقليات، القرى المنسية، والأماكن المجهولة التي تتوارى بخجل بينما تتصدّر أخرى -أكثر جرأةً- المشهد السياحي المحلي والاتجاه للاحتفاء بالتراث الشعبي. تغيب الشمس قبل وصولي لمهد الذهب بينما أحث الخطى (العجلات؟) في طريقي الذي يزداد وحشة، تتبدّد الوحشة في ومضات خافة عند مرورنا بقرىّ هادئة أو محطاتٍ متهالكة قبل أن نعود لنغرق في الظلام. أحد هذه النقاط المضيئة على الطريق هو مفترق طرق تقع عليه محطتان متقابلتان تتنقل بينهما أسراب من العمال الوافدين للسمر وتناول العشاء بعد يومٍ شاق، تقع أعيننا على اللافتتين المتجاورتين: فوال الطايف، وخبز تميس فنتذكر أننا لم نأكل شيئاً منذ ساعات ولا مدن قريبة بالجوار، نتوقف على جانب الطريق ونتناول الفول والتميس والزبادي. تقول أمي أنه ألذّ فول ذاقته منذ سنوات، أوافقها، رغم أنني لا آكله عادةً. أواصل الطريق وأصل للطائف قبل منتصف الليل، نجوت من الطريق المظلم بأقل الأضرار، أي بمخالفة ساهر واحدة.

أواصل في الأيام القادمة التنقل بين جبال تهامة، من الطائف للباحة وأخيراً أبها وأطراف جازان، أمر بعدد لا يحصى من القرى الصغيرة والعقبات الممتعة والمرهقة، أحد هذه العقبات هي عقبة الصماء التي تفصل بين رجال ألمع والسودة-أبها، اكتشفت لاحقاً بعد تجاوزها أنها أحد أخطر العقبات على مستوى المملكة -رغم عدم وجود تحذيرات قبلها- تجربة صعود العقبة كانت تحدياً حقيقياً لي وتجربةً مخيفةً لوالدتي. الطريق الضيق الذي يتلوى كثعبان لما يزيد عن 30 كيلومتر صادفت خلاله 8 سيارات متعطلة، بعد التوقف لعدة مرات حتى تنخفض حرارة السيارة استطعت في النهاية تجاوزها بسلام. القيادة في طرق الجنوب ممتعة ومثيرة في آن؛ إن أردت الوصول لمكانً مميز فيجب أن تغامر. أحد هذه الأماكن كان شعف بللسمر في الطريق الواصل بين الباحة وأبها، توقفت وأخذت غدائي من بللسمر وبدأت في صعود الجبل لمدة ثلث ساعة وتناولت غدائي في قمته، تجربة تستحق العناء.

عقبة الصماء من الأعلى

أثناء طريق النزول من شعف بللسمر

بعد استقرارنا في أبها والتجول فيها تلقينا خبراً مؤسفاً بوفاة خال والدتي، الرجل الذي كان حاضراً في حياة أمي منذ طفولتها في البادية الواقعة على حدود العراق، والذي يعدّ -في مجتمعي- من الأشخاص النادرين في حفظهم واستذكارهم للقصص والقصائد الشعبية، أتذكره وقد ناهز الثمانين عاماً يتصدر المجلس في مزرعة على طريق القصيم متلقياً أسئلة الشباب والشيب عن قصص وقصائد يتلوها من ذاكرته وكأنه يقرأ كتاباً، وعندما يتعثر في قصيدة بعد تلاوة عدة أبيات منها يلقي باللوم على الزمن وتداعي الذاكرة وأعين نظرائه من الشيبان الذين يقولون عنه "كمبيوتر". تأثرت والدتي بالخبر وفقدت رغبتها في السفر، عرضت عليها أن نعود من فورنا وكان هذا ما حدث، لملمنا أغراضنا على عجل ووجدت أن أقرب طريق للعودة يبلغ 1400 كم. انطلقت في الساعة الثالثة بعد الظهر في طريق مختلف تماماً عن طريق الذهاب.

بين الذهاب والعودة مررت بمئات القرى الصغيرة بما أنني سلكت طرقاً صحراويةً وقديمة، بعض هذه القرى هجرها أهلها تماماً ولا ترى منها سوى مجموعة بويتات متناثرة على جانبي الطريق ولا يبدو أن أحداً يعيش فيها، قرىً أخرى تتألف من مجتمعات من العمالة الوافدة في ظاهرة تتكاثر في الآونة الأخيرة حيث ينزح أهل القرى إلى المدن الكبرى بحثاً عن الرزق بينما يحتفظون بأملاكهم في "الديرة" التي يرعى فيها العمّال المزارع والماشية، الزحف الوحشي للمدنية يجرّد هذه القرى شيئاً فشيئاً من مظاهر الحياة، فيما قرىً قليلة لا تزال تتشبث بنمط حياتها في عنادٍ للزمن وللظروف. أتأمل التضاريس والسمات المختلفة بين القرى في نجد والشمال بالمقارنة مع قرى الجنوب، الطراز المعماري الجنوبي وألوانه المتنوعة والفاقعة يتناقض مع نظيره المحافظ في الشمال، الماشية والفواكه والأطعمة تتنوع كثيراً على طول الطريق، والطبيعة الديمغرافية للقرى تتنوع، لا تزال كثير من قرى الجنوب -حتى الصغيرة منها- تحافظ على تركيبتها السكانية بينما ينطبق ذلك بنسبة أقل على القرى الشمالية. للأسف لم تتح لي ملاحظة القرى في طريق العودة الذي قطعت معظمه في ليل دامس. استطعت الوصول قبل حلول الفجر بعد أن أتممت أطول رحلة أقطعها دفعة واحدة بلا توقفات تذكر.

 

الاثنين، 7 سبتمبر 2020

I'm Thinking of Ending Things

I'm Thinking of Ending Things (film) - Wikipedia

فيلم تشارلي كوفمان الأخير (I’m Thinking of Ending Things) يتناول ثيمات متكررة في أفلام الكاتب والمخرج السينمائي الذي قدم روائع متفرقة خلال ال25 سنة الماضية. لفهم هذا الفيلم، من المهم فهم الأفكار الأساسية التي تشغل كوفمان. أولاً، تهدف معظم أفلام كوفمان لاستكشاف العقل البشري، منذ (Being John Malcovich) حيث يدور الفيلم حول إمكانية الدخول إلى عقل الممثل جون مالكوفيتش، إلى (Eternal Sunshine for the Spotless Mind) الذي تدور أحداثه داخل عقل بشري ولكن في الماضي هذه المرة. من المهم قبل مشاهدة الفيلم أن نعرف أننا أمام مخرج وكاتب مهووس بفكرة استكشاف دواخل العقل البشري، لذلك فإنتاج فيلم يدور بالكامل داخل مخيلة أحد الشخصية هو أمر غير مستغرب. الفيلم في رأيي تدور جميع أحداثه تقريباً داخل عقل جايك، والمشاهد الوحيدة التي تدور في "العالم الواقعي" هي التي يأكل فيها جايك العجوز وجباته أو يمارس عمله في المدرسة. الرحلة وما يحدث فيها هي مجرد خيال.

مبدأ آخر يشغل كوفمان هو الزمن وطريقة تفاعلنا معه كبشر، الزمن في أفلام كوفمان ضبابي والشخصيات تبدو غير واعية بمروره، في (Synecdoche New York) يصرخ بطل الفيلم بأعلى صوته في وجه مربية ابنته "هي طفلة عمرها ثلاثة سنوات فقط!" لتقاطعه المربية بهدوء لتوضح: "إنها تبلغ 11 سنة الآن". هذي الفلسفة تشرحها لوسي -سأعتمد الاسم الأول رغم تعدد الأسماء- في الفيلم لتقول "يحلو للناس التفكير بأنهم نقاط تمضي عبر الزمن، لكني أعتقد أن العكس هو الصحيح، نحن ثابتون، الزمن هو من يعبرنا كرياح باردة تسرق حرارتنا وتجعلنا متشققين ومجمدين، وموتى؟" معظم الشخصيات في أفلام كوفمان لا تبدو واعية بمرور الزمن. تساعد الطبيعة الكرتونية للشخصيات -هي ليست شخصيات واقعية في النهاية- على تجسيد هذا الشعور وتضخيمه؛ هذا الشعور الذي لابد أن يراودنا في زمن تكاد تكون سمته الرئيسية هي الركض. في هذا الفيلم، تتجسد هذه الثيمة بشكل واضح؛ يقول جايك "أحياناً أشعر وكأنني أصغر سناً بكثير، وكأنني طفل. حتى أمرّ من أمام المرآة ثم أستوعب الحقيقة"، وفي الحقيقة علاقة جايك بطفولته هي علاقة مثيرة للاهتمام، فهو يبقي أرجوحة تبدو كالجديدة في فناء منزله، في نفس اللحظة التي يلقي النظرة عليها من مطبخ، ينتقل المشهد إلى الرحلة المتخيلة في السيارة حيث تتحدث لوسي باستغراب عن أرجوحة تبدو كالجديدة أمام منزل مهجور. جايك مهتم بالأرجوحة (الماضي)، أما حاضره فمهمل كبيت مهجور، فهو لا يعيش في الزمن الحاضر، وتصوره عن نفسه مختلف تماماً عن حقيقته، هو عالق في نقطة معينة من الزمن مع والديه اللذين لا بد أن يكونا قد ماتا منذ زمن طويل. عندما يعود من الرحلة إلى المدرسة، تقول له البائعة في محل الآيس كريم: "لا تذهب إلى هناك" " إلى أين؟" "إلى الأمام في الزمن!".

التقدم في السن ومرور الزمن هو أيضاً ثيمة مهمة تبرز في هذا الفيلم كما في (Synecdoche New York) حيث يترافق التقدم بالسن مع شعور متعاظم بالوحدة والإحباط من الطريقة التي سارت عليها الأمور. الوحدة، هي الأخرى ثيمة متكررة في أفلام كوفمان حيث تعيش شخصياته في صراع دائم للهرب من هذه الوحدة، لكنها دائماً ما تقع فريسة لهذا الشعور الحتمي، يتجسد هذا بشكل أوضح في المشهد الختامي من (Synecdoche New York) مثلاً، وفي هذا الفيلم كذلك. أستطيع القول إن هذا الفيلم بالكامل يتحدث عن المحاولة لتجاوز هذه الوحدة، بالكتب والميديا في أحيان، وبالخيال والغرق في الماضي في أحيان أخرى.

تشارلي كوفمان بدأ مسيرته السينمائية ككاتب نصوص، ثم انتقل في السنوات الأخيرة ليتولى زمام الإخراج بالإضافة للكتابة، النصوص التي قدمها كوفمان ككاتب نالت احتفاء نقدياً عالياً (حصل على الأوسكار على نص Eternal Sunshine for the Spotless Mind)، لكن منذ توليه للإخراج بالإضافة للكتابة بدأت أفلامه تتسم بتعقيد أكبر ولم تنل نفس الاحتفاء الذي تلقته أفلامه الأولى. من السمات المميزة في تجارب كوفمان الإخراجية هي غزارتها بالتفاصيل، بالإضافة للحوارات الذكية والتي تقبل عدة تأويلات أحياناً. تستطيع أن تستشف أن الجهد الذهني المبذول خلف كل مشهد وكل حوار، وهذا قد يكون أحد أسباب التباعد النسبي بين أفلامه (ثلاثة أفلام في ال13 سنة الأخيرة)، سواء اتفقنا أم اختلفنا مع فنيّة هذا الاختيار، يندر أن نجد مخرجاً أو كاتباً سينمائياً يضع هذا القدر من التركيز على التفاصيل في كل مشهد وفي كل حوار أو حتى حركة من الممثلين.

الفيلم يمكن أن يصنّف -تجاوزاً- كفيلم طريق، أي فيلم قائم على تصوير رحلة معينة، لكن على عكس هذا الصنف من الأفلام، الرحلة في هذا الفيلم هي رحلة إلى الماضي ولا تدور إلا في عقل الشخصية الرئيسية. يمكن أن نفكر في هذا الفيلم كنظير -رغم الفوارق الشاسعة- لفيلم ميازاكي (Spirited Away)، في ذلك الفيلم، الرحلة تؤدي بالشخصيات إلى عالم سحري وغرائبي، وتبدأ الرحلة بتحول الوالدين إلى خنزيرين بسبب النهم، في هذا الفيلم أيضاً يترافق الوصول إلى منزل الوالدين بالحديث عن خنزيرين، لكن القصة هنا لا تنتهي نهايةً مشرقة. الخنزيران يموتان لأن الدود يأكلهما (من الداخل) وهما على قيد الحياة، لنكتشف أن الخنزيرين هما مجاز لشعور الشخصية الرئيسية تجاه نفسه. تقودنا هذه الرحلة إلى دهاليز الماضي داخل عقل جايك، إلى طفولته وعلاقته المتوترة والمتقلبة مع والديه.

يتضح طوال الفيلم أن جايك يعاني من قلق اجتماعي ونظرة دونية للذات. النظرات العابرة التي يتلقاها من الفتاتين في المدرسة والتي اعتبرها احتقارية تتضخم لنجد نفس الفتاتين لاحقاً في خياله كمتبجحتين في محل الآيس كريم. مواقف أخرى متعددة توضح نظرة جايك السلبية تجاه نفسه وتوقه إلى تلقي التقدير من الآخرين. يعبر عن ذلك في حديثه للوسي عندما تشيد باعتنائه بوالدته "أحياناً أظن أن لا أحد يرى الأفعال الجيدة التي أقوم بها". توق جايك إلى التقدير يبدو ظاهراً في أجزاء متعددة من الفيلم؛ شخصيته المتخيلة المثقفة التي تحاول دائماً ابراز ثقافتها واطلاعها، وفي المشهد المسرحي الختامي تتجسد هذه الرغبة في أن يجد التقدير ممن أحبوه وممن احتقروه في الوقت نفسه.

المشاكل النفسية التي يعاني منها جايك يبدو أنها تعود لمرحلة الطفولة، الفيلم يصور لنا جايك كطفل متميز -أو مجتهد على أقل تقدير- يكرّم من قبل مدرسته (وإن كان يزدري هذا التكريم)، مكتبة طفولته تتضمن كتباً متنوعة، وهي الكتب التي شكّلت ثقافته ونظرته للحياة. نجد في مكتبته مقالات ديفيد فوستر والاس التي يستشهد بها في الفيلم، ديوان ويليام ووردزورث؛ شاعره المفضل الذي كتب عدة قصائد عن لوسي؛ الحبيبة المتخيلة. بالإضافة إلى كتاب مقدمة في علم الفيروسات وكتاب عن الفيزياء. فلنتصور حياة جايك الطفل: يمارس الرسم، يقرأ الشعر ويشاهد الأفلام (في مكتبته أفلام متنوعة وكتاب مراجعة أفلام)، مهتم بالعلوم وبالتحديد الطب والفيزياء. لكن كل شيء يتوقف عند هذه المرحلة، لا يمكن الجزم بالسبب الذي أدّى بطفل يُتوقَّع له مستقبل مشرق لينتهي به الحال بعيداً عن هذه الطموحات والاهتمامات في وظيفة بسيطة يظهر هو نفسه تذمره منها. لا بد أن شيئاُ ما حدث، الخوف الغامض من القبو الذي يحوي رسوماته وهو صغير يشير لذلك، أرجّح أن السبب يتعلق بالوالدين بالدرجة الأولى، الرحلة مع لوسي دائماً ما تمر بالوالدين في مختلف مراحل حياتهم، وفي لحظته الأخيرة قبل الموت يتذكر في مشهد خاطف شجاراً حدث بينهما، قد يلوم جايك والديه على ما حدث له (رغم اعتراضه هو نفسه على هذا المبدأ في أحد الحوارات) وهو لا يخفي قرفه تجاههما في مشاهد متعددة، وقلقه من نفور لوسي من طبعهما الشاذ، حيث يكرر السؤال لها عن رأيها في والديه أكثر من مرة. عوداً على لوسي ففي كل شخصية من شخصياتها يتجسد طموح مبتور من طفولة جايك، الرغبة في دراسة الفيروسات، الفيزياء، الشعر، الرسم. هذه هي رغبات جايك التي تجسدها لوسي في أطوارها المختلفة.

هل لوسي شخصية حقيقية أم هي من اختراع جايك بالكامل؟ عندما انتهيت من مشاهدة الفيلم كنت مقتنعاً أن لوسي محض خيال، هي صورة للشريك المثالي في نظر جايك، صهباء وتشبه مظهر الممثلة التي يتابع فيلمها (والتي في أحد المشاهد التي لم أفهمها، تأخذ مكان لوسي في السيارة لتلقي جملةً قبل أن تعود لوسي)، هي أيضاً مثقفة وناجحة عملياً وهو ما يشعر جايك بالرضا عن نفسه، شخصية لوسي دائماً مفصلة لتناسب جايك، في كل مرة تتغير فهي تمثل رغبة معينة من رغباته. هذه كانت قناعتي الأولى: هي شخصية مختلقة بالكامل. لكن مع التفكير أكثر في الفيلم وإعادة بعض المشاهد، بدأت أظن أنها علاقة حقيقية وإن حدثت منذ زمن طويل، لا يزال جايك عالقاً في ذكرى هذه العلاقة الوحيدة. في المشهد الوحيد الذي يجمع جايك الحقيقي (وليس صورته عن نفسه) مع لوسي تقول لها أنها لا تتذكر حتى ملامح حبيبها، وأنهما لم يتحدثا كثيراً: "لا أتذكر حتى ملامحه، ولماذا يجب عليّ ذلك؟ لم يحدث شيء. أنت لا تفكر في بعوضة لدغتك قبل 40 سنة أليس كذلك؟" يؤكد لها جايك العجوز أنه لم ير أحداً "باستثنائك أنت، أنا أراك أنت فقط!" بعدها بدأت أفكر في كون لوسي هي العلاقة اليتيمة لجايك والتي هي وسيلته الوحيدة لتخيل العلاقات البشرية؛ فتصورنا للعلاقات مبني بالدرجة الأولى على تاريخنا معها. وبحكم أن جايك لم يعش سوى هذه العلاقة الوحيدة التي لم يكن فيها أي تفاعل بينهم فهو يسقط كل آماله وتطلعات عليها، ويحاول فهم لماذا يفكر شخص في أن يتركه، ففي النهاية، لوسي تردد دائماً أنها يجب أن تنهي العلاقة رغم أنه شخص لطيف ومتفهم. في المشهد الراقص بعد لقاء جايك الحقيقي بلوسي المتخيلة؛ ينتهي المشهد الذي يصور شابين في عنفوان الشباب والجمال (يرقصان في محاكاة للأفلام الموسيقية الرومنسية) وهما على وشك الزواج، لكن أخيراً يتدخل بواب (إحالة إلى وظيفته التي تجعله مرفوضاً من الآخرين؟) وتحول بينه وبين الزواج. وفي معركة كرتونية بين الشاب الرومانسي والبواب ينتهي العراك بمقتل الصورة الرومانسية وبقاء البواب على قيد الحياة، مما يؤدي إلى ابتعاد الحبيبين عن بعضهما وهطول الثلوج على جثة الحب، وهو ما أظن أنه محاكاة للرحلة الأخيرة في العاصفة الثلجية. في نظر جايك إذن، وظيفته هي السبب في اغتيال مستقبله؛ العاطفي على الأقل.

 I'm Thinking of Ending Things' Author Ian Reid Talks Film Adaptation |  IndieWire

-يبدو أنني أفرط في متابعة الأفلام.

-الكل يفعل ذلك؛ مرض اجتماعي

-أملأ دماغي بأكاذيب لتمضية الوقت.

هذا الحوار يجسد ما يدور في عقل جايك، اهتمامه الواضح بالأفلام وبما يكتب عن الأفلام والتلفاز (مقالات ديفيد فوستر والاس) وتأثره الشديد بها هو جزء من شخصيته. أحد أفلام جايك المفضلة (نجده على قمة أرففه) هو فيلم عقل جميل الذي يصور عالم رياضيات (جون ناش) مصاب بالشيزوفيرينيا، في مشهد الختام يُكرّم جون ناش بجائزة نوبل ويلقي خطاباً يشيد فيه بزوجته التي ساندته، هذا الخطاب يكرره جايك بشكل حرفي في المشهد الختامي من الفيلم، يجسد المشهد تصور جايك للختام المثالي للحياة، أن يدين بالفضل للشخص الذي أحبه وينال التقدير من جميع الناس في حياته؛ الفتاة التي تعاني من قلق اجتماعي والتي نقابلها في محل الآيسكريم وفي المدرسة قبل ذلك، والفتاتان اللتان تعاملانه بفظاظة، ووالداه بالتأكيد. الجميع يوليه التقدير والاحتفاء الذي يستحقه. لكن ينتهي الخطاب بلا جائزة، يتضح أنه مسرح وليس تكريماً، ينتقل بعدها ليغني عن وحدته: "ويبدأ حلم يرقص في رأسي؛ جميع الأشياء التي تمنيتها تحدث كما خططت لها".

عزلة الإنسان الحديث تزيد يوماً بعد يوم عن مجتمعه، والتعاطي مع الميديا -بما في ذلك الأفلام والمسلسلات- يشكّل مهرباً لتجاوز هذه الوحدة، طريقة للتماهي مع عوالم أخرى لتجاوز احباطات الحياة اليومية. الأفلام جزء محوري من حياة جايك، نراه يشاهد فيلم رسوم متحركة على تلفزيونه القديم أثناء إفطاره، وثم يشاهد فيلماً آخر عن الحب أثناء الغداء. وتعايشه مع الحياة وتغلبه على وحدته مرتبط بالأفلام والكتب التي قرأها، ومعظم المشاهد الغريبة في الفيلم (كمشهد الرقص مثلاً) هي نتاج عقلية متشبعة بالأفلام. أفكار جايك لا تكاد تخرج عن إطار الكتب والأفلام التي يحبها. الحوار الذي يتناول فيلم كاسافيتيس مأخوذ حرفياً من كتاب لباولين كايل الموجود في مكتبة جايك (قرأت هذه المعلومة بشكل عابر في مقال لجوش بيل). شخصية لوسي تبدو خليطاً من كل الأشياء اللي قرأها وشاهدها ومن كل الاهتمامات التي نشأت عن التفاعل مع هذه الأعمال. بما أن حياته تفتقر لأي إشباع روحي أو اجتماعي، فالكتب والأفلام التي تعزز خياله هي المهرب الوحيد. مونولوج لوسي في الزريبة يجسد الحاجة للخيال لمواصلة الحياة:

" كل شيء يجب أن يموت، هذه هي الحقيقة، يصور المرء لنفسه أن الأمل موجود دائماً، أنه يعيش فوق طائلة الموت، (...)، لكنني أظن أن البشر هم الحيوانات الوحيدة التي تعرف حتمية موتها، تعيش الحيوانات الأخرى في الحاضر (عند هذه الجملة فقط ينتقل المشهد من الزريبة لتصوير جايك الحقيقي الذي ينظف المدرسة)، البشر لا يستطيعون، لذلك اخترعوا الأمل" (يعود المشهد بعد ذلك لتصوير المزرعة) لكن جايك لا يعيش على الأمل بل على أطلاله.

في نهاية هذه التدوينة أود الإشارة لنقطة أخيرة قد لا تخص هذا الفيلم بذاته، قد يتساءل البعض، ما المغزى من تصوير الفيلم بهذه الطريقة المشوّشة للمشاهد؟ أنا وإن كنت أسلّم بحقيقة أن مشاهدة الفيلم ليست تجربة سهلة (على الأقل عندما لا تكون لديك فكرة عن محتواه)، لكن من قال إن تجربة السينما يجب أن تكون سهلة؟ كشخص يحب الفنون والأدب، والسينما بشكل خاص، أجد لذّة في مشاهدة الأعمال التي تأخذ اللغة الفنية إلى أقصى حدودها التعبيرية، التي تخلق لغة سينمائية أو أدبية جديدة. جمالية الفن بالنسبة لي تتركز في قدرته على التعبير عن أفكاره بطرق خلّاقة. لذلك شخصياً لا أستسيغ التعقيد في أفلام نولان مثلاً، بينما أجد متعة كبيرة في مشاهدة تعقيد عوالم كوفمان، كنت أسأل نفسي عن السبب، وأظنه ينطلق من كون التعقيد في أفلام نولان مثلاً هو تعقيد خارج نطاق اللغة السينمائية، تعقيد علمي ومصبوب في إطار فيلم إثارة، وهو ما لا يثير اهتمامي شخصياُ. بينما التعقيد في أفلام كوفمان رغم تشابكه والمبالغة في التعقيد أحياناً، فهو نابع من تعقيد التجربة البشرية والعقل البشري، من الاحباطات التي تواجه الإنسان الحديث، ومن الأسئلة التي لا نجد لها حلاً. أتفهم دائماً كل من يجد تجربة مشاهدة أفلام كوفمان مربكة وبلا معنى، لكن شخصياً أتلذذ كثيراً بهذه الأفلام ولا أستطيع الانتظار حتى فيلمه القادم.

 

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...