الاثنين، 5 مارس 2018

كتاب الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور



هذا الكتاب هو كنز معرفي، يستهل الصويان كتابه بإهدائه إلى جواد علي، من هذا الإهداء نستشف رغبة الصويان بإنجاز مماثل لما فعله جواد علي صاحب أحد أهم الإنجازات الثقافية العربية في العصر الحديث بموسوعته (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) التي يلقي فيها الضوء على حياة وثقافة ومجتمع العرب في الجاهلية، جواد علي كان أمام مهمة شاقة في استعادة فترة زمنية سحيقة في ظل شح المصادر باستثناء القصائد وأخبار الحروب المهمة مما اضطره حتى لمراجعة ماكتب عن العرب من المؤرخين المعاصرين في الثقافات الأخرى. كنت أتناقش مع أحد الأصدقاء قبل فترة عن انعدام المشاريع العلمية في التاريخ خصوصاً وفي مختلف المجالات عموماً. فالكثير من أخبار التاريخ الحديث للجزيرة العربية اندثرت بموت رواتها في ظل عدم وجود حركة جادة لتدوين هذا التاريخ. في ظل غياب هذه المشاريع لم يكن هنالك بد من الاعتماد على المجهودات الفردية الخارقة لعلماء مثل جواد علي. مهمة الصويان ليست مختلفة كثيراً عن مهمة جواد علي في استعادة التاريخ الجاهلي، فالتاريخ الحديث للجزيرة العربية رغم قرب العهد منه فمصادره أشح بكثير من مصادر العصر الجاهلي، لكن الفرق الوحيد هو وجود المصادر الشفهية وهي التي استقى منها سعد الصويان معظم مادة كتابه بالإضافة إلى كتاب آخر مرادف له (ويتميز بضخامة الحجم أيضاً) هو "أيام العرب الأواخر:  أساطير ومرويات شفهية في التاريخ والأدب من شمال الجزيرة العربية". مشروع الصويان الذي يجسده هذين الكتابين هو إلقاء الضوء على الفترة المظلمة من تاريخ الجزيرة العربية في ال300 سنة الأخيرة. وكتب الصويان هي من الكتب القليلة الرصينة التي تتناول التاريخ المحلي، فهو ينطلق من معرفة أكاديمية في مجال الأنثروبولوجيا من أمريكا وفي نفس الوقت يمتلك معرفة عميقة بتركيبة المجتمع وذاكرة هائلة لحفظ وربط مختلف المرويات والأبيات الشعرية النبطية والفصيحة في مختلف العصور. هذه الثقافة الموسوعية هي التي أتاحت للصويان تأليف كتاب بهذه الشمولية.

يهدف الكتاب إلى تجسيد صورة متكاملة لثقافة وأدب وحياة سكان الجزيرة العربية (وبالذات منطقة نجد وشمال الجزيرة). لا أنصح بقراءة الكتاب لكل من يحتقر الثقافة الشعبية البدوية أو لايملك اهتماماً حقيقياً باكتشافها فالكتاب مليء بالتفاصيل الدقيقة والتحليلات المتعمقة لثقافة وطريقة تفكير سكان الجزيرة. الكتاب هو محاولة لالتقاط مختلف جوانب الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية لهذه الحقبة وهذا مايفسر الحجم الكبير للكتاب الذي يتجاوز 800 صفحة. لا أعرف إن كان الصويان قد نجح في رسم صورة دقيقة لمعالم هذه الحقبة، بالتأكيد سيختلف معه البعض في تفاصيل مختلفة لكن الأكيد هو أنه بذل مجهوداً كبيراً لالتقاط كل هذه التفاصيل والأحداث والعادات، وكل مازعمه في هذا الكتاب استند فيه على المرويات الشفهية الموثقة والقصائد ولم يأتِ بأي افتراضات عشوائية.

يبدأ الكتاب بمحاولة لفهم طريقة تفكير البدو في الجزيرة، فيبدأ أولاً بتناول الشعر النبطي ويقارنه بالشعر الجاهلي، فالشبه الكبير في البيئة وطرق العيش يجعل الشعر في هذين العصرين شديد التشابه لولا فارق اللغة، ويورد المؤلف شواهد شعرية عديدة يظهر فيها التشابه الشديد في الأسلوب والأفكار بين الشعراء الجاهليين ونظرائهم النبطيين، وبغض النظر عن التشابه في البيئة وظروف العيش فالوسط الثقافي أيضاً متشابه، ففي كل البيئتين تنتشر الأمية، ويخصص الكاتب فصلاً كاملاً لدراسة عقلية الأفراد في ثقافة تغلب عليها الأمية، ويشير إلى اختلافات كبيرة في وجهة النظر تجاه العالم يسببها هذا الاختلاف الثقافي، بالإضافة لذلك فالتباين شديد بين الأدب الذي تنتجه بيئة أمية في مقابل البيئات المتعلمة، معرفة هذه الاختلافات تساعد كثيراً على فهم وتذوق الشعر الجاهلي والنبطي على حد سواء رغم اختلاف الذوق الذي ينشأ عنه اعتيادنا على أدب مختلف نشأ في ظروف ثقافية مختلفة.

يخصص الكاتب الفصول التالية في دراسة القصيدة النبطية، وفي فصل كامل يخصصه للتعريف شعر القلطة أو المحاورة وتحليل هذا الصنف من الشعر الذي يكاد يكون حكراً على الشعر النبطي ولايزال يلقى رواجاً حتى هذه الأيام رغم تطوره واختلاف مواضيعه، ينتقل بعد ذلك لدراسة القصيدة النبطية بشكل عام وأهم خصائصها وجوانبها الجمالية، والتحليل في الكتاب ليس تحليلاً جافاً بل يمتلئ بالشواهد الشعرية التي تكاد تتواجد في كل صفحة مما يضفي متعة على القراءة -رغم مأخذي على عدم توسعه في شرح المفردات الوعرة في كثير من الأبيات-

ومن أبرز المواضيع التي تطرق لها الكاتب هي مدى موثوقية التاريخ الشعبي الذي يعتمد بشكل شبه كامل على المرويات الشفهية، غياب التدوين في الجزيرة العربية أحاط تاريخها بضبابية شديدة بحيث أصبح من الصعوبة بمكان التأكد من أي حدث تاريخي مهما كان مهماً أو قريباً زمنياً، فمع مرور الزمن وعدم وجود مصادر مدونة ولمحدودية الذاكرة الشفهية وتدخل الأهواء السياسية والاجتماعية يتعرض جزء كبير من التاريخ للتحوير المتعمد أو غير المتعمد مما يصعب مهمة الباحث في هذا التاريخ، رغم ذلك لازال بالإمكان الوصول لبعض النتائج التاريخية بالدراسة المتعمقة والناقدة للتاريخ، للصويان اهتمام خاص بهذا الموضوع فقد ألف كتاباً بالانجليزية بعنوان (الرواية الشفهية للتاريخ العربية: تحليل لغوي واثنوغرافي) درس فيه حدث تاريخي وقع في قبيلة شمر واستقى هذا الحدث من أحد عشر راوياً وقارن بين مختلف الروايات في هذا الكتاب. هذا الموضوع -أي تأثير الزمن على التاريخ الشفهي- أحد أهم وأجمل المباحث في الكتاب.

لاحقاً ينتقل الكتاب للحديث عن ثنائية البدو والحضر في الجزيرة العربية والعلاقة التكاملية بين هذين الشقين. وصف فيها معظم جوانب العلاقة السياسية والاجتماعية والأدبية بين الحضر والبدو، احتوى هذا المبحث على حقائق مثيرة للاهتمام بالنسبة لي. وتطرق كذلك إلى موضوع القبلية وهو من أوسع المباحث في الكتاب وأحد أهم الجوانب في تاريخ الجزيرة إن لم يكن أهمها، تناول في هذا الجزء أصل القبائل الحديثة والدور السياسي والاجتماعي للقبيلة. الكاتب يرى أن القبائل هي مكون سياسي وليست مبنية بشكل كامل على أساس بيولوجي، بل أن القناعة بنقاء العرق ظهرت في وقت لاحق بسبب الأيديولوجيا القبلية. وتناول شواهد كثيرة من التاريخ الحديث والقديم منها ماحدث لقبيلة قضاعة في عصر الأمويين حيث انحازت إلى القبائل العدنانية وانتسبت لها لأسباب سياسية خالصة، فالأحداث السياسية هي من الأسباب الرئيسية لإعادة تشكل القبائل. وفي نهاية الكتاب يتناول الكتاب الخصائص الاجتماعية والسياسية ونمط الحياة والتعاهدات والأعراف السائدة بين أفراد المجتمع.

قراءة الكتاب كانت ممتعة جداً لي لكن هذا راجع لاهتمامي بالمواضيع التي يتناولها الكتاب، لا أتصور أن كل القراء سيجدون نفس المتعة في القراءة مالم يشاركوني الاهتمام، من النقاط الرائعة في الكتاب هي إدراجه للعديد من المرويات الشفهية التي سجلها الكاتب على مر السنوات (وقد سجل عدد كبير جداً من المرويات من مختلف المناطق والرواة والقبائل وإن كان ركز على الشمال). هذه المرويات تمثل دور كبير في نقل وجه نظر الكاتب حيث يستشهد بها كثيراً لتوضيح جوانب مختلفة من حياة الناس وطرق تفكيرهم، وفي الوقت نفسه تضفي هذه المرويات متعة إضافية للقراءة حيث تحوي قصص جميلة طريفة في حين ومثيرة وتراجيدية في أحيان أخرى، مأخذي على هذه المرويات الشفهية (أو تحذيري بالأصح!) هو أن الكاتب نقلها حرفياً من فم الرواة، لذلك سيواجه معظم القراء صعوبة كبيرة في فهم أغلب المرويات. حتى أنا تعبت في فهم بعض هذه المرويات رغم اعتيادي على لهجة قائليها. قدرة الصويان على استذكار معظم هذه الاستشهادات مثيرة للدهشة فعلاً، ففي بعض الأحيان يستعين بسالفة طويلة من أجل جزئية صغيرة فيها تثبت وجهة نظره.

هذا الكتاب من أجمل ماقرأت في الفترة الأخيرة، مثري جداً وممتع وعميق. كل مبحث في الكتاب كان مفيد بالنسبة لي، ورغم طول الكتاب لن أمانع لو كان حجمه ضعف هذا الحجم.

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...