الأحد، 23 يوليو 2023

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس



كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. شاهدت خمسة أو ستة عروض، أجدرها بالذكر تجسيد لجودو للسجناء. كنت لا أزال أعيش في ذاك العالم البعيد الأشبه بالحلم عندما عدت للوطن بعدها بعشرة أيام.

السيدة جونسون كانت امرأة مثابرة، أرادت أن أشاهد خلال هذه الأيام العشرة كل ما يستحق المشاهدة في السويد، كل ما يمكن أن يثير اهتمامي "كامرأة". حتى أنها رتبت زيارة "فاسا" الشهيرة، السفينة التي انتشلت كمومياء فرعونية من قاع البحر بعد مئات السنوات من غرقها. ذات مساء، بعد حضور سوناتا الشبح في مسرح الدراماتن، أخذتني مضيفتي الى المكتبة الملكية، وبالكاد وجدت الوقت لتناول شطيرة في حانة.

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة وقتها، وكان المبنى مغلقاً. لكن السيدة جونسون أظهرت رخصة للرجل الواقف في الباب فسمح لنا بالدخول، متمتماً. حاملاً مجموعة كبيرة من المفاتيح، كما كان الحارس الذي سمح لنا بالدخول للسجن لحضور مسرحية جودو. مضيفتي التي تركتني بين يدي سيبيروس (1) قالت انها ستتصل بي صباح الغد في الفندق، وأخبرتني أن أستكشف المكتبة بسلام بينما سيطلب لي الحارس سيارة أجرة للعودة للفندق عندما أحتاجها... كيف يمكنني أن أرفض عرضها اللطيف؟ رافقني الحارس إلى باب هائل وقام بفتحه وإيقاد ضوء خفيف، ثم تركني وحدي. سمعت صوت المفتاح بينما أقفل الباب خلفي. ها أنا ذا، في مكتبة كالزنزانة.

هبت نسمة من مكانٍ ما، تأرجحت معها شباك العناكب التي تدلّت من الأرفف كخرق مهترئة من التُلّ، كما لو أنها زجاجات نبيذ قديمة في قبو. كل الغرف تتشابه، يصل بينها ممر ضيق، والنسمة التي لم أتبيّن مصدرها، هبّت في كل مكان.

عند تلك اللحظة، حتى قبل أن ألقي نظرة فاحصة على الكتب (وبعد أن وقع نظري على حرف (C) في أحد المجلدات في الغرفة الثالثة) استوعبت، كل غرفة احتوت على حرف واحد من الأبجدية. وهذا كان الثالث. وبالفعل في القسم التالي كل الكتب كانت موسومة بالحرف (D). فجأة، مدفوعة بحدس غامض، اندفعت راكضة. سمعت دوي خطواتي مشكلةً أصوات صدىً تبددت في الظلمة. بانفعال وبأنفاس منقطعة، وصلت إلى الحرف (M) وبهدف واضح في ذهني فتحت أحد الكتب. تيقنت -ربما قرأت عنه في مكان ما- أنّ هذا هو موسوعة الموتى، العمل المحتفى به. كل شيء اتضح في غمضة عين، حتى قبل أن أفتح المجلد الهائل.

أول ما وقعت عليه عيناي كانت صورته، الصورة الوحيدة، تبرز في منتصف الصفحة التي تتكون من عمودين من النص. كانت الصورة التي رأيتَها في مكتبي. ملتقطة في 12 نوفمبر من عام 1936 في ماريبور، مباشرة بعد انتهاء خدمته في الجيش. أسفل الصورة كان اسمه، وبين قوسين: السنوات (1910-79).

تعلم أن والدي توفي مؤخرًا وأنني كنت مقربة منه منذ صغري. لكن لا أريد الحديث عن ذلك هنا. ما أقلقني هو أنه توفي قبل شهرين فقط من رحلتي إلى السويد. كان أحد أسباب سفري هو رغبتي في الهرب من الأسى. فكرّت، كما يميل لذلك الناس في زمن المحن، أن تغيير المكان سيساعدني في الهروب من الألم، كما لو أننا لا نحمل الأسى بداخلنا أينما ارتحلنا.

بينما أحتضن الكتاب بين ذراعيّ وأميل على الخشب المتداعي للرفّ، بدأت بقراءة سيرته الذاتية بينما تلاشى إحساسي بالزمن. كانت الكتب كما في مكتبات العصور الوسطى، مربوطة بسلاسل حديدية سميكة إلى الأرفف. لم أستشعر ذلك إلا عندما حاولت جرّ المجلد الثقيل إلى مصدر الضوء.

تملكّني الغمّ فجأة، تصورت أني أطلت الجلوس وأن مضيفي السيد سيبيروس (كما قررت أن أسميه) سيأتي ويطلب مني الرحيل. لذلك بدأت بتصفح الفقرات على عجل بينما أجر الكتاب المفتوح إلى أقصى مسافة تسمح بها السلاسل تجاه الضوء الباهت الذي يلقي به المصباح. الطبقة السميكة من الغبار على أطراف المجلدّات وشباك العنكبوت التي تغطيها تدلّ بجلاء على أن أحدًا لم يلمسها منذ زمن بعيد. كانت مقيدة إلى بعضها كعبيد في سفينة، باستثناء أن سلاسلها كانت بلا أقفال.

إذن هذه هي موسوعة الموتى الشهيرة، حدّثت نفسي. كنت أتصورها كتابًا بالغ القدم، كتابًا "مهيبًا"، ما يشبه كتاب الموتى التيبيتي أو الكابالا أو حياة القديسين – أحد بدائع الروح الإنسانية المقصورة فقط على نخبة من البشر؛ وحدهم النساك والأحبار والرهبان من يستمتعون بها. تنبهّت إلى أنني قد أواصل القراءة حتى الفجر بلا دليل ملموس لي أو لوالدتي عما قرأته، قررت حينها أن أنسخ بعض القطع المهمة وأن أكتب ملخصًا لحياة والدي.

الحقائق التي دونتّها هنا في دفتري هي اعتيادية، حقائق موسوعية، لا تعني أحدًا سواي أنا وأمي: أسماء، أماكن، تواريخ. كانت كل ما أمكنني تدوينة على عجالة قبل الفجر. ما يجعل الموسوعة عملًا فريدًا (فضلًا عن كونها النسخة الوحيدة) هو أنها تصوّر العلاقات الإنسانية، اللقاءات، المشاهد – حشد التفاصيل الذي تتكون منه الحياة الإنسانية. عند ذكر (على سبيل المثال) مكان ولادة أبي، التوثيق ليس متكاملًا ودقيقًا فحسب (كرايفتسي، بلدة غلينا، منطقة سيساك، مقاطعة بانجا) بل مصحوبًا أيضًا بتفاصيل جغرافية وتاريخية. لأنها توثق كل شيء. كل شيء. تصوير الريف الذي نشأ فيه والدي كان حيويًا حتى أنه أثناء قراءتي، أو بالأحرى تحليقي بين السطور والصفحات، شعرت أنني في قلبه: الثلج الذي يغطي قمم الجبال البعيدة، الأشجار الجرداء، النهر المتجمد حيث يتزلج الأطفال كما لو كانوا في لوحة لبروغل. بين هؤلاء الأطفال رأيته بوضوح، والدي، رغم أنه لم يكن والدي حينها، وحده هو من سيصبح والدي، من كان والدي. وفجأة اكتسى الريف خضرةً وتفتحت البراعم على الأشجار، بيضاء ووردية، أزهرت شجيرات الزعرور البري أمام عيني، وألقت الشمس بأشعتها على قرية كرايفتسي، قرعت أجراس كنيسة القرية، مائت الأبقار في حظائرها، والانعكاس القرمزي لشمس الصباح لمع على نوافذ أكواخ وأذاب خيوط الثلج المتدلية من المرازيب.

بعدها، كما لو كان كل شيء يحدث أمام عينيّ، رأيت مسيرة جنائزية باتجاه مقبرة القرية. أربعة رجال محسوري الرؤوس حملوا التابوت الخشبي على أكتافهم، وفي مقدمة الجنازة كان رجل يمشي وقبعته في يده، تبيّنت -حيث ذكر ذلك في الكتاب- أنه كان جدي من والدي ماركو، زوج الراحلة. الكتاب يذكر كل شيء عنها كذلك: تاريخ ولادتها، سبب المرض والوفاة، تطورات المرض. يذكر الكتاب أيضًا نوع الأقمشة التي كفّنت فيها، من غسل جسدها، من وضع العملات النقدية على عينيها، من ربط ذقنها، من نحت على الكفن، أين قطعت أخشاب الكفن. قد يمنحك هذا فكرة -ولو محدودة- عن وفرة المعلومات المدونة في موسوعة الموتى بوساطة أولئك الذين أخذوا على عاتقهم المهمة الصعبة والجديرة بالثناء في توثيق – بطريقة لا شك في كونها موضوعية ونزيهة – كل شيء يمكن تدوينه فيما يخص حيوات أولئك الذين أكملوا رحلتهم في الحياة الدنيا ورحلوا إلى دار الخلود. (حيث يؤمن القائمون عليها بمعجزة النشور الإنجيلية، ويجمعون هذا الفهرس الضخم تحضيرًا لتلك اللحظة. حتى يستطيع الجميع أن يجدوا لا رفاقهم البشر فحسب -ولكن الأهم- ماضيهم المنسيّ. عندما يحين الوقت، هذا الملخص سيكون الكنز العظيم للذكريات والدليل الساطع للنشور.) كان واضحًا عدم وجود أي تفرقة فيما يخص الحياة الإنسانية بين تاجر إقليميّ وزوجته، بين كاهن قرية (كما كان جد أبي) وقارع جرس القرية الذي يدعى تشوك والذي يرد ذكره أيضًا في الكتاب. الشرط الوحيد – فكرة خطرت لي بغتة، بدا وكأنها كانت في ذهني قبل أن أتأكد من صحتها- لأن يرد اسم في موسوعة الموتى هو أن لا يرد اسم الشخص في أي موسوعة أخرى. أثار انتباهي منذ البداية بينما كنت أتصفح الكتاب -أحد آلاف المجلدّات التي تحمل الحرف M- غياب ذكر الأشخاص المشاهير. (حصلت على تأكيد فوري بينما كنت أقلب الصفحات بأصابع متجمدة، بحثّا عن اسم أبي.) الموسوعة لم تحوي فصلّا مخصصأ لمازوراني أو مايرهولد أو مالمبيرغ أو ميريتي، الذين وضعوا قواعد اللغة التي درسها أبي في المدرسة، أو ميستروفيش، الذي رآه أبي مرة في الشارع، أو دراغوسلاف ماكسيموفيتش، مدير المخرطة ونائب الحزب الشيوعي الذي كان والدي يعرفه، أو تاسا ميلوخيفيتش، الذي ترجم كاوتسكي، والذي دردش معه والدي مرة في مقهى "القيصر الروسي". كان عملًا لمنظمة دينية أو لطائفة تؤكد أجندتها الديموقراطية على نظرة مساواة لعالم الموتى، نظرة مستلهمة بلا شك من المبادئ الإنجيلية وتهدف إلى تلافي المظلمات الإنسانية ومنح جميع عباد الله مكانًا متساويًا في الأبدية. أدركت بسرعة أيضًا أن الموسوعة لا تنقب في المساحة المظلمة من الزمن والتاريخ، أنها بدأت بعد 1789 بقليل. هذه الطبقة الغريبة من المتعلمين لابد أنها كانت تضم أفرادًا من حول العالم يحفرون بلا كلل وبسرية في خطابات النعي والسير الذاتية، يحللون معلوماتهم، ويقومون بإيصالها إلى المقر الرئيسي في ستوكهولم. (تساءلت لوهلة فيما إن كانت السيدة جونسون أحدهم. هل أحضرتني إلى المكتبة عمدًا، بعدما أفضيت بحزني لها، حتى اكتشف موسوعة الموتى لعلي أجد ذرة من الاطمئنان بقراءتها؟) هذا كل ما استطعت أن أخمنه، كل ما استدللته من عملهم. السبب في سرية عملهم يكمن، كما أظن، في تاريخ الكنيسة الطويل في الاضطهاد، فالعمل على موسوعة كهذه يتطلب قدرًا من السرية لتلافي تأثيرات الغرور الإنساني ومحاولات التخريب.

ما يثير الدهشة ليس سرية نشاطهم فحسب، بل أيضًا أسلوبهم، خليط لا معتاد من الإيجاز الموسوعي والبلاغة الإنجيلية. خذ على سبيل المثال المعلومة الهامشية التي استطعت تدوينها في دفتري: ها هي تتكثف بحدة في أسطر قليلة إلى حد أنها فجأة، كما لو كانت سحرًا، تغمر روح القارئ بمشهد حيوي وتدفق سلس للصور. نجد طفلًا عمره 3 سنوات محمولًا لأعلى جبل في يوم مشمس وقائظ كي يزور جده من والدته، بينما في الخلفية – في المستوى الثاني أو الثالث، إن صحت التسمية – هناك جنود، محصلوا ضرائب، وشرطة، صوت إطلاق مدفع بعيد ونباح مكتوم. نجد تأريخًا بليغًا للحرب العالمية الأولى: دوي قطارات تمر بسوق بلدة، عزف فرقة نحاسية، سكب المياه من عنق مطارة حربية، زجاج يتشظى، رفرفة وشاح امرأة... كل موضوع له قطعة مخصصة، كل حقبة لها جوهرها الشاعري ومجازها – ليست مرتبة زمنيًا بالضرورة بل تأتي كتلاحم غريب بين الماضي، الحاضر، والمستقبل. كيف إذًا يمكننا شرح التعليق الحزين الوارد في الكتاب – "ألبوم الصور" يغطي السنوات الخمسة الأولى من حياته، حيث قضاها مع جده في كوموغوفينا – التعليق الذي ينص، إن لم تخنني الذاكرة على أن "هذه ستكون السنوات الأجمل من حياته"؟ ثم يأتي سيل من الصور المكثفة من طفولة مختزلة، إن صح التعبير، في صور دلالية: أسماء مدرسين وأصحاب، "أجمل سنين" الفتى مع مرور الفصول والمواسم، المطر يبلل وجهًا باسمًا، زلّاجة توبوغان تنزلق إلى أسفل تلة ثلجية، صيد أسماك السلمون المرقطة، وثم – أو في نفس الوقت إن أمكن – جنود يرجعون من ساحات المعركة في أوروبا، مطارة حربية في يد الفتى، قناع غاز محطم مرمي في أحد الخنادق. وأسماء، قصص حياة. الأرمل ماركو يقابل زوجته الجديدة، صوفيا ريبراتشا، أحد السكان المحليين لبلدة كوموغوفينا، العرس، الأنخاب، سباق الخيل في القرية، أعلام وشرائط تخفق في الهواء، مراسم تبادل الخواتم، الأغاني ورقصات الكولو خارج الكنيسة، الفتى مرتديًا قميصًا أبيضًا وغصن من إكليل الجبل يزين صدره.

هنا في دفتري، دونت فقط اسم كرايفتسي أما الموسوعة فتكرس قطعًا دسمة لتدوين ما حدث وقتها، مع ذكر الأسماء والتاريخ. تصف كيف استيقظ يومها، كيف أيقظه صوت طائر الوقواق في الساعة الجدارية من نومه العميق. تحوي أسماء قائدي العربات الخشبية، أسماء الجيران الذين رافقوا الموكب، صورة لناظر المدرسة الذي أشرف على نصح الأم الجديدة للفتى، موعظة الكاهن، كلمات أولئك الذين وقفوا على أطراف القرية لكي يلوحوا أيديهم بالوداع الأخير.

لا شيء مما ذكرته ناقص، لا شيء محذوف، لا حالة الطريق ولا حتى درجة لون السماء، وقائمة ممتلكات رب الأسرة ماركو مكتملة إلى أدق التفاصيل. لا شيء منسي، ولا حتى أسماء مؤلفي الكتب القديمة التي يمتلكها ولا الكتب التمهيدية المليئة بالنصائح، قصص المواعظ، والحكايا الإنجيلية. كل فترة من الحياة، كل تجربة مدونة: كل سمكة تم صيدها، كل صفحة تمت قراءتها، اسم كل نبتة قطفها الفتى في حياته.

وهاهنا أبي كرجل شاب، قبعته الأولى، رحلته الأولى في القطار وقت الفجر. ها هنا أسماء الفتيات، كلمات الأغاني التي كانت تغنى وقتها، نص رسائل الحب التي كتبها، الصحف التي قرأها – شبابه كاملًا مختزلًا في قطعة واحدة.

نحن الآن في ريوما، حيث درس والدي المرحلة الثانوية. ربما يمنحك هذا المثال نبذة عن مدى حصافة -إن أردنا استعمال كلمة تراثية- موسوعة الموتى. المبدأ بسيط، لكن التفاني في تدوين كل شيء، كل ما تكونه الحياة البشرية كفيل بخطف أنفاس الإنسان. ما يرد ذكره هنا هو تاريخ وجيز لريوما، خريطة الأرصاد الجوية، وصف لتقاطع السكك الحديدية؛ اسم دار الطباعة واسم كل ما كان يطبع وقتها – كل جريدة، كل كتاب؛ المسرحيات التي تعرض بتسويق مكاتب السياحة ونشاطات السيرك الجوال؛ وصف لباحة خلفية... حيث ينحني شاب على شجرة أكاسيا هامسًا بكلمات عاطفية أو بالأحرى بذيئة في أذن فتاة (نجد ما قاله الشاب مدونًا). وكل شيء – القطار، المطبعة، فيل السيرك، السكة التي تفترق في اتجاه ساباك – كلها ترد هنا ما دامت ترتبط بالشخص المقصود. توجد أيضًا مقتطفات من أوراق مدرسية: كشف درجات، خربشات، أسماء الزملاء في الصف، حتى السنة ما قبل الأخيرة (الفصل ب) حيث أجرى الفتى محادثة مع البروفيسور ل.د. المحاضر في التاريخ والجغرافيا.

فجأة نجدنا في قلب مدينة جديدة. إنها السنة 1928، الفتى يرتدي قبعة عليها شعار السنة الأخيرة وقد نمى له شارب الآن. (سيبقي على شاربه لبقية حياته. في أحد المرات، منذ فترة ليست بعيدة، انزلق منه موس الحلاقة فحلق شاربه كليّا. عندما رأيته انفجرت بالدموع: كان شخصًا آخر. في دموعي كان يكمن شعورٌ غامضٌ عن مدى شعور الفقد الذي سأحس به عندما يموت). الآن ها هو في كافيه سنترال، ثم في السينما حيث يعزف بيانو بينما يعرض على الشاشة فيلم رحلة إلى القمر. لاحقًا نجده ينظر إلى منشور إعلاني ملصق على جدارية في ساحة جيلاتشيتش، ملصق يعلن -وأذكر ذلك فقط لأنه مدعاة للفضول- عن محاضرة لكريزا. اسم آنا إرميخا – خالة سيعيش لاحقًا في شقتها بشارع جوريسيتش في زغرب – يرد هنا جنبًا لجنب مع أسماء كريزاي، مغني الأوبرا الذي مر مرة بجانبه في البلدة الشمالية؛ إيفان لابوس، الإسكافي الذي أصلح حذائه، وسيدة تدعى أنتي دوتينا، حيث كان يشتري الصامولي من مخبزها.

في سنة 1929 البعيدة، للوصول لبلغراد كان يجب قطع جسر السافا، ربما بنفس متعة الوصول التي يجدها المرء حتى اليوم. عجلات القطار تطقطق بينما يعبر الجسر الحديدي، خضرة نهر السافا بادية، دراجة نارية تطلق صافرتها وتخفف السرعة، وأبي يظهر من أحد نوافذ الدرجة الثانية، متأملًا الأفق الذي تبدو فيه المدينة اللامألوفة. الصباح منعش والضباب يتلاشى رويدًا من الأفق، دخان أسود يتصاعد من فوهّة السفينة سميديرفو، وبوق يعلن مغادرتها إلى نوفي ساد.

باستثناء انقطاعات قصيرة، قضى والدي خمس عشرة سنة تقريبًا في بلغراد، وخلاصة تجاربه – ما مجموعه ثمانية عشر ألف يومٍ وليلة (432,000 ساعة) مكتوب هنا، في كتاب الموتى هذا، في ما يقارب خمسة أو ستة صفحات! وهنا على الأقل بشكل عام يوجد احترام للتسلسل الزمني، تجري الأيام كنهر الزمن، باتجاه المنبع، باتجاه الموت.

في سبتمبر من تلك السنة، 1929، التحق والدي بمدرسة مسح الأراضي، تدون الموسوعة تفاصيل استحداث مدرسة بلغراد لمسح الأراضي و تدرج نص المحاضرة الافتتاحية لمديرها البروفسور ستوكوفيتش (الذي سينضم لاحقًا للمسّاحين الذين سيخدمون الملك والوطن بولاء، حيث وقع على عاتقهم الحمل الثقيل بتخطيط الحدود الجديدة لوطننا). أسماء الحملات المجيدة، والخسائر غير المجيدة في الحرب العالمية الأولى – كاجامكالان، موكوفاتش، سير، كولوبارا، درينا – تتناوب مع أسماء المعلمين والطلاب الذين سقطوا في المعارك، ومع درجات والدي في الجبر، الرسم، التاريخ، الدين، والخط. نجد أيضًا اسم روزا، روزكاندا، فتاة تبيع الزهور التي "غرّر بها" د.م.، كما كان يقال في تلك الأيام، بالإضافة لأسماء بوريفوج-بورا إيليتش التي كانت تدير مقهىً، ميلينكو ازانيا، خياط؛ كوستا ستفاروسكي، الذي كان يمر بمحله كل صباح لتذوق فطيرة برك ساخنة؛ ورجل كان يدع كريتنيتش، الذي غشّه حينما كانا يلعبان الورق. بعد ذلك تأتي قائمة من الأفلام ومباريات كرة القدم التي شاهدها، تواريخ رحلاته إلى أفالا وكوسماي، الأعراس والجنائز التي حضرها، أسماء الشوارع التي سكنها (سيتينجسكا، الامبراطورة ميليكا، جافريلو برينسيب، الملك بيتر الأول، الأمير ميلوش، بوزيشكا، كامينيشكا، كوسماسكا، برانكوفا)، وأسماء المؤلفين لكتبه الدراسية في الجغرافيا والجبر وقياس المسافات، عناوين الكتب التي أحبّها (ملك الجبال، قاطع الطريق ستانكو، ثورة المزارعين)، قداديس الكنائس، عروض السيرك، تمارين الجمباز، الواجبات المدرسية، والمعارض الفنية (حيث تلقت لوحة والدي بالألوان المائية ثناء لجنة التحكيم). نجد أيضًا ذكرًا لليوم الذي دخّن فيه سيجارته الأولى، في حمامات المدرسة مقتديًا بفتى يدعى ايفان جيراسموف، ابن أحد المهاجرين الروس والذي سيأخذه بعد أسبوع لمقهى بلغراد الحافل في تلك الأيام لعرض أوركسترا غجرية مع ضباط وكونتات روس يبكون لعزف الغيتار والبالاليكاس... لا شيء متجاهلًأ: الاحتفال الشعائري بكشف النقاب عن نصب كاليميجدان، تسمم غذائي من الايس كريم الذي اشتراه من زاوية شارع مقدونيا، الحذاء اللامع ذو النهاية المعقوفة الذي اشتراه بالمال الذي أعطاه إياه والده لدخول الامتحانات.

القطعة القادمة تروي رحيله إلى أوزيتشكا بوزيغا في مايو من عام 1933. مسافراً معه في قطار الدرجة الثانية تعيس الحظ جيراسيموف، ابن المهاجر. في مهمتهم الأولى كان مطلوبًا منهما تدوين تضاريس صربيا ورسم خرائط وتفاصيل تضاريسية. تناوبا في حمل المزواة وقضيب القياس بينما يحميان رأسيهما بقبعات من القشّ – إنه فصل الصيف الآن، وأشعة الشمس حارقة – يتسلقان التلال بينما يناديان ويصرخان على بعضهما؛ تبدأ أمطار الخريف بالهطول؛ تبدأ الخنازير بالنبش والماشية بالتململ، ينبغي حماية المزواة من المطر لكيلا تجتذب البرق. في المساءات يشربان السليفوفيتز مع ميلينكوفيتش، مدير مدرسة القرية، غيراسيموف يلعن بالروسية أولًا ثم بالصربية: هذا البراندي ثقيل. غيراسموف المسكين سيموت في نوفمبر من تلك السنة بالتهاب رئوي بينما يقف د.م. على سرير موته مستمعًا لهذيانه المحموم – تمامًا كما سيقف على قبره حانيًا رأسه وقبعته في يده، متأملًا الطبيعة العابرة للوجود الإنساني.

هذا ما تبقى في ذاكرتي، هذا ما دونته في مذكرتي بينما تعجلت التصفح بأصابعي المتجمدة في تلك الليلة (أو بالأحرى الصباح). وتدون تلك القطعة تاريخ سنتين كاملتين، سنتين يسيران بنمط ثابت كما يبدو، حيث يسحب د.م. حامله ومزواته متسلقًا ونازلًا التلال في موسم قطاع الطرق (بين مايو ونوفمبر)، تمر المواسم، تفيض مياه الأنهاء وتنحسر، تخضرّ أوراق الشجر ثم تصفرّ، ووالدي جالسُ في ظل شجرة خوخ مثمرة، ثم يحتمي تحت مرازب أحد المنازل من وميض البرق الذي يضيء السهل المظلم بينما يدوي الرعد عبر الأودية.

ها هو الصيف، الشمس ملتهبة ومساحونا (لديه الآن شريك جديد اسمه دراجوفيتش) يتوقفون عند منزل (تدون الموسوعة اسم ورقم الشارع) في فترة الظهر، يطرقون الباب طالبين شربة ماء. تخرج من المنزل فتاة حاملة معها جرّة من ماء بارد، كما لو كانت في حكاية شعبية. هذه الفتاة – كما حزرت غالبًا – ستكون والدتي.

لن أحاول هنا أن أستحضر ذلك كله من ذاكرتي، كل شيء، الطريقة التي دوّن ووثّق هنا – تاريخ وطبيعة فترة الخطوبة، الزواج التقليدي حيث يصرف المال بلا حساب، تشكيلة العادات الشعبية التي كانت جزءًا من تلك الحياة: كل ذلك كان ليكون ناقصًا، متشظيًا مقارنة بالنص الأصلي. رغم ذلك، لا أستطيع مقاومة ذكر أن النص يسمّي الشهود والضيوف، اسم الكاهن الذي أجرى المراسم، الأنخاب والأغاني، الهدايا والمهدين، الأطعمة والأشربة. ثم، بهذا التسلسل الزمني، تأتي فترة خمسة أشهر بين نوفمبر ومايو، حيث يستقر الزوجان الحديثان في بلغراد؛ تورد الموسوعة التخطيط المعماري للطابق الذي يسكنانه، طريقة توزيع الأثاث، سعر الموقد والسرير والدولاب، بالإضافة إلى تفاصيل حميمية معينة التي حينما تذكر تكون دائمًا ما تتشابه بشدة بقدر ما تختلف بشدة. ففي النهاية – وهذا ما أعتبره الرسالة المركزية لجامعي الموسوعة – لا شيء في تاريخ الإنسانية يتكرر، الأشياء التي تبدو في الوهلة الأولى متطابقة لا تكاد تتشابه حتى؛ كل فرد هو نجم بذاته، كل شيء يحدث دائمًا ولا يحدث أبدًا، كل الأشياء تعيد نفسها بلا نهاية وبلا أن تتكرر. (لهذا السبب يصر مؤلفو هذا الصرح السحري من التنوع الذي تشكله موسوعة الموتى على فكرة الفردانية؛ لهذا السبب كل حياة إنسانية هي مقدسة بالنسبة لهم.)

لولا هذا الهوس لجامعي الموسوعة بفكرة فرادة حياة كل إنسان وتفرّد كل حدث، ماذا ستكون الفائدة من ذكر أسماء الكاهن والمسجل، وصف فستان الزفاف، أو اسم جليديتش، قرية تقع بقرب كرالجيفو، إلى جانب كل تلك التفاصيل التي تربط الإنسان بالمكان؟ أما الآن فنحن نصل إلى وصول والدي "إلى الميدان"، إقامته ما بين مايو إلى نوفمبر – موسم قطاع الطرق مرةً أخرى – في قرىً مختلفة. نجد اسم جوفان رادوجكوفيتش (الذي في نزله، في تلك المساءات، شرب المساحّون النبيذ على الحساب) واسم طفل، سفيتوزار، الذي أصبح الحفيد الروحي لوالدي بطلب من من يدعى ستيفن جانجيتش، واسم د. ليفستيك، منفي سلوفيني صرف لوالدي علاجات لالتهاب المعدة، واسم فتاة تدعى رادميلا-رادا مافريفا، التي تقلّب برفقتها على أكوام التبن في أحد الاسطبلات.

أما عن خدمة والدي العسكرية، فالكتاب يتتبع المسيرات التي قطعها مع الكتيبة الخامسة التي كان مقرها في ماريبور، ويعدد الأسماء والرتب للضباط وضباط الصف، وأسماء الجنود في الثكنات التي أقام بها، جودة الطعام في تلك الفوضى، إصابة في الركبة تلقاها في مسيرة ليلية، تقريع تلقاه لإضاعته قفازًا، اسم المقهى الذي احتفل فيه بنقله إلى بوزاريفاك.

للوهلة الأولى قد تبدو كأي خدمة عسكرية أخرى، أي نقل، أما من وجهة نظر الموسوعة فكل من نقل والدي إلى بواريفاك والشهور السبعة التي خدمها في الثكنات كانت أحداثًا فريدة: لن تتكرر، لن يتكرر أن يقوم مسّاح يدعى د.م. في خريف عام 1935 برسم خرائط بقرب موقد في ثكنات بوزاريفاك مفكرًا في أنها قبل شهرين أو ثلاثة، في مسيرة ليلية، استرق نظرة خاطفة إلى البحر.

البحر الذي لمحه للمرة الأولى في سن الخامسة والعشرين، من سفوح جبل فيليريت في الثامن والعشرين من ابريل 1935 سيبقى معه للأبد – كشفًا إلهيًا، حلمًا سيراوده لما يربو على أربعين سنة بحدة لا تخبو، سرًا، نظرةً لن يمكنه وصفها بالكلمات. بعد كل تلك السنين لن يكون بمقدوره الجزم إن كان ما رآه هو البحر أو مجرد بريق الأفق، وسيبقى البحر الحقيقي لديه هو ذلك اللون الأزرق في الخرائط حيث تتغير درجة الزرقة بحسب عمق المياه.

ذاك كان السبب، فيما أظن، لرفضه الدائم لفكرة الذهاب في عطلة للسياحة، حتى عندما أرسلت منظمات الإتحاد ووكالات السياحة الناس أفواجًا إلى المنتجعات الساحلية. كانت معارضته تخفي قلقًا شاذًا، خوفٌ من الوهم، كما لو أن رؤية البحر عن قرب ستدمّر بطريقة ما تلك الرؤية البعيدة التي بهرته في الثامن والعشرين من ابريل 1935 عندما لمح للمرة الأولى، من مسافة بعيدة وعند طلوع الفجر، الزرقة المجيدة للبحر الأدرياتيكي.

كل الأعذار التي اختلقها لتجنّب لقاء البحر لم تكن مقنعة أبدًا: لا يريد أن يقضي الصيف كسائح فاحش، لا يستطع أن يجمع المال (والذي لم يكن بعيدًا عن الصحة)، لا يستطيع تحمل حرارة الشمس (رغم أنه قضى حياته متعرضًا لحرارة لا تطاق)، وهل يمكننا رجاءّ أن نتركه بسلام. البقاء في بلغراد خلف الستائر المعتمة كان يروق له. علاقته العاطفية مع البحر موثقة بتفصيل شديد في هذا الفصل من موسوعة الموتى، ابتداءّ من تلك اللمحة الشاعرية في 1935 ووصولًا إلى اللقاء الحقيقي، وجهًا لوجه، بعد ما يربو على أربعين سنة.

حدث ذلك -لقاؤه الأول مع البحر- في 1975 عندما وافق أخيرًا بعد مضايقات جميع أفراد العائلة له على الذهاب مع والدتي إلى روفيني والبقاء في منزل بعض أصدقائهم الذين كانوا يقضون فصل الصيف هناك.

عاد مبكرًا، ساخطًا على الجو، ساخطًا على خدمة المطعم، ساخطًا على البرامج التلفزيونية، ساخطًا على حشود السياح، على المياه الملوثة، على قناديل البحر، على الأسعار وعلى رسوم الطرق السريعة التي وصفها بالسرقة. أما عن البحر نفسه، فيما عدا تذمره من التلوث (السياح يعاملون البحر كحمام عام) وقناديل البحر (رائحة البشر تجذبهم كأنهم قمل)، لم يقل شيئًا، ولا حتى كلمة. تجنب الحديث عنه بتلويحة من يده. الآن فقط، أفهم ما كان يعنيه: الحلم الذي راوده طوال حياته بالبحر الأدرياتيكي، تلك الرؤية البعيدة، كانت أكثر رقة وحدّة، أكثر نقاءً وأقوى من تلك المياه القذرة حيث يتهادى رجال بدناء ونساء ملطخات بالزيوت، "سود كالقار".

كانت تلك هي المرة الأخيرة التي ذهب فيها إلى الساحل في العطلة الصيفية، الآن فقط أفهم أن شيئًا داخله قد مات وقتها، كصديق حميم – حلم بعيد، وهم بعيد (إن كان وهمًا) حمله داخله لأربعين عامًا.

كما ترى، قمت بقفزة مقدارها أربعين سنة من سيرة حياته، لكن اتباعًا للتسلسل الزمني فنحن لا نزال في العامين 1937 و1938 حيث كان لدى د.م. وقتها ابنتان، أنا وأختي (كان أخي لم يولد بعد وقتها)، مولودون في أعماق المناطق النائية الصربية، قرى كبيرتوفاك-في-الملافا، جيجينا، فلاسينا، نجازيفاك، بودفيس. ارسم خريطة للمنطقة في ذهنك مكبرًا كل نقطة في تلك الخريطة وكل مركز عسكري إلى حجمهم الحقيقي، دوّن أسماء الشوارع والبيوت التي سكنها، ثم امش إلى الحديقة الخلفية، إلى المنزل، ارسم خريطة مفصلة للمنزل، دوّن قائمة كاملة بالأثاث والنباتات، ولا تنس أسماء الورود النامية في الحديقة الخلفية للمنزل ولا الأخبار الواردة في الصحف التي يقرأها، أخبار عن تحالف ريبينتروف-مولتوف، عن نزوح العائلة المالكة اليوغوسلافية، عن أسعار الشحم والفحم، عن مآثر الماكر أليكسيتش... هكذا كان أساتذة الموسوعة يعاملونها.

كما ذكرت سابقًا، كل حدث متعلق بمصيره الشخصي، كل قصف لبلغراد، كل تقدم للكتائب الألمانية جهة الشرق وكل تقهقر لها، كل ذلك يذكر بقدر ما يتعلق بحياته الشخصية. هناك ذكر لمنزل في شارع بالموتشيفا مع تدوين تفاصيل المبنى وسكانه، فقط لأنه احتمى (ونحن معه) في قبو المبنى أثناء قصف بلغراد؛ بالطريقة ذاتها، هناك وصف لمنزل ريفي في ستيبويفاك (اسم المالك، التصميم..الخ مذكورة) حيث أبقانا والدي لبقية الحرب، بالإضافة إلى أسعار الخبز، اللحم، الشحم، الدواجن، والخمر. ستجد حديثًا لوالدي مع مدير شرطة نجازيفاك مؤرخًا بعام 1942 معفيًا إياه من مسؤولياته، وإن قرأت بعناية ستراه جامعًا أوراق النباتات في الحديقة أو في شارع بالوموتيتش ايفا بينما يصففهم ويحشرهم مع مجموعات ابنته النباتية، مدونًا أسماء النباتات "دانديليون (تاراكساكوم اوفيشينال)" أو "ليندين (تيليا)" بخط بديع كما كان يدون في الخرائط أسماءً كفلاسينا أو البحر الأدرياتيكي.

هذا النهر الشاسع الذي هو حياته، هذه الرواية العائلية، فروعها تتفرق إلى روافد متعددة، وجنبًا إلى جنب مع تفاصيل وظيفته في مصنع السكر بين عامي 1943-44 يجري وصفًا ملخصًا لقدر والدتنا ونحن، أطفاله – مجلدات ضخمة تتكثف في قطع وجيزة. وهكذا يرتبط استيقاظه الصباحي بوالدتي (هاهي ترتحل إلى قرية أو لأخرى لترهن ساعة قديمة، جزء من مهرها، مقابل دجاجة أو قطع من لحم الخنزير) وبمغادرتنا إلى المدرسة، نحن الأطفال. هذا الطقس الصباحي (أصداء أغنية ليلي مارلين تتردد في الأنحاء قادمة من مذياع في مكانٍ ما من الحي) تعبر عن الجو العائلي في منزل المسّاح المطرود من وظيفته خلال سنوات الاحتلال (الفطور الهزيل مكون من نبتة الهندباء والشابورة) ولإعطاء صورة عن "الموضة" في ذاك الزمان، عندما كان الناس يرتدون أغطية الأذن، أحذية خشبية، ومعاطف جيشية طويلة.

بينما عمل أبي في مصنعة ميليسيتش للسكر كان يخبئ في معطفه دبس السكر ليحضره لنا في مجازفة خطيرة، معلومة كهذه لها نفس الأهمية في الموسوعة كالغارة التي شنّت على عيادة العيون التي تقع بجانب منزلنا مباشرة، أو لاختلاسات عمي سفيجا كاراكيسيفيتش، أحد سكان ريوما التقليديين، حيث كان يسرق من نادي الضباط الألمان في شارع الفرنسيين بينما كان يعمل "كمورّد". أحد الطرائف التي كانت من أفاعيل العم سفيجا أيضًا كان أن تعشت عائلتنا لعدة مرات خلال الاحتلال الألماني عشاءً فاخرًا من سمك الشبوط الدسم (حيث ننقعه لليلة في حوض الاستحمام بمنزلنا) ونتبعه بشامبانيا فرنسيا فاخرة من نادي الضباط نفسه "نادي الفرسان الثلاثة"، لم يفلت هذا التفصيل بالضبط من انتباه جامعي الموسوعة. وبالطريقة نفسها واتباعًا لمنطق الموسوعة (لا يوجد شيء هامشي في أي حياة إنسانية، لا توجد هرمية لأهمية الأحداث)، ضمنوا في الموسوعة أمراض الطفولة التي تعرضنا لها – التهاب الغدة والتهاب اللوزتين، السعال الديكي، الطفح الجلدي – بالإضافة إلى غزوات القمل ومشاكل الرئة التي عانى منها والدي (تشخيصهم يتوافق مع تشخيص الدكتور جوروفيتش: انتفاخ في الرئة ناتج عن التدخين المفرط). ولكن ستجد أيضًا نشرة بالخطاب المعلق في سوق بايلونوفا والذي يحوي قائمة بالرهائن المعدمين والذين كان منهم أصدقاء مقربون ورفاق لوالدي؛ أسماء الوطنيين الذين تتدلى أجسادهم من أعمدة التلقراف في تيرازيجي في قلب بلغراد، كلمات الضابط الألماني الذي يطلب رؤية بطاقة تعريفه في مطعم المحطة في نيش؛ وصف لزواج أحد أفراد التشيتنيك(2) في فلاسوتينتشي حيث يطلقون الرصاص الحي في الهواء طوال الليل.

معارك شوارع بلغراد في أكتوبر 1944 توصف هنا من وجهة نظر والدي ومن منطلق منزله بشارع بالموتيفا، المدافع وهي تجر حول البيت والحصان الميت في الزاوية. الضجيج العالي للجرارات العسكرية يخفي أصوات التحقيق الذي يتعرض له الفولكس دويتشه(3) فرانجو هيرمان الذي تتسلل استغاثاته الخافتة من الجدار الرقيق للمبنى المجاور بينما يتولّى أحد ضباط قسم حماية الشعب إقامة العدل والانتقام. أصوات الطلقات النارية المنبعثة من مسدس رشاش في الباحة المجاورة تدوي بشدة وسط الصمت الذي يتلو مرور دبابة سوفييتية، لطخة من الدماء التي تلوث الجدار بينما يراقب والدي من نافذة الحمام، وجثة المسكين هيرمان في وضعية شنيعة – كل ذلك مدونًا في الموسوعة ومصحوبًا بتعليقات من مراقب خفي.

بالنسبة لموسوعة الموتى، التاريخ هو مجموع الأقدار الإنسانية، الحشد الكلي للأحداث سريعة الزوال. لذلك فهي تدون كل تصرف، كل فكرة، كل نفس إبداعي، كل نتوء تضاريسي في الخريطة، كل حفنة من الطين، كل حركة لإخراج طوبة من الركام.

العمل الذي تولاه والدي بعد الحرب كان في مصلحة الأراضي حيث كان يقع على عاتقهم قياس وتدوين السجلات العقارية من البداية، وكما يحدث بعد الاضطرابات التاريخية العظمى، تم إيلاء أهمية قصوى لهذه التفاصيل: جودة أراضً معينة، العقود الصغيرة، أسماء جديدة لقرى ذات مسميات ألمانية وأسماء جديدة لقرى محتلة حديثًا. لا شيء يتم إغفاله كما ذكرت؛ الطين الذي يلطخ أحذيته المطاطية التي اشتراها من جندي سكران، إسهال شديد تعرض به بسبب تناوله لملفوف متعفن في حانة صغيرة في اندجيجا؛ علاقته الغرامية بامرأة بوسنية، نادلة، في سومبور؛ حادثة دراجة هوائية تعرض لها بقرب سانتافير والمفصل المتورم الذي نتج عنه؛ رحلة ليلية على ظهر ناقلة مواشي في الخط الذي يربط بين سينتا وسوبوتيكا؛ شراؤه لأوزة سمينة للاحتفال برأس السنة؛ جلسة السمر مع مهندسين روس في بانوفيتشي؛ خلعه لضرس في الضواحي بالقرب من ساقية بئر؛ سباق تبلل فيه حتى العظم؛ موت المسّاح ستيفا بوجدانوف بعد أن داس على لغم في طرف أحد الغابات، وكان قد لعب معه البلياردو في اليوم السابق؛ تسمم حاد بسبب الكحول في قرية ماركودول؛ رحلة في شاحنة مزدحمة في الطريق الطيني الرابط ن زرينجانين واليمير؛ خلاف مع مدير جديد وهو رجل يدعى شوبوت في مكان ما بالقرب من جاشا تومي؛ شراء طن من فحم بونافيتشي بعد أن توقف في الطابور من الساعة الرابعة فجرًا في محطة قطار الدانوب في درجة حرارة -15 مئوية؛ شراء طاولة طعام رخامية من سوق الخردوات المستعملة؛ إفطار من جبنة "أمريكية" وحليب في كافيتيريا العمال "البوسنيين"؛ مرض ووفاة والده؛ زيارته للمقبرة في اليوم التالي للدفن؛ جدال مرير مع شخص يدعى بيتر جانكوفيتش وآخر يدعى سافا دراجوفيتش لدفاعهم عن الايدولوجيا الستالينية؛ حججهم وحججه المضادة (والتي انتهت بتمتمة والدي "يلع* ** ستالين!").

وهكذا، تغمرنا الموسوعة بأجواء الأزمنة، بأبعادها السياسية.

الخوف الذي عايشه والدي والصمت الذي أتذكره شخصيًا – صمت ثقيل وجائر- يفسره الكتاب كصمتٍ معدٍ: يومًا ما علم أن ذاك البيتر جانكوفيتش نفسه (زميل وله صلة قرابة بوالدي) كان يذهب لمبنى أمن الدولة كل صباح في السادسة للتحدث (بعد وشاية من سافا دراجوفيتش سالف الذكر) وسيصل متأخرًا للعمل، وجهه مسوّد ومتورم من تلقي اللكمات وقلة النوم، وهكذا استمر الوضع لستة أشهر، في السادسة صباحًا من كل يوم حتى تذكر بيتر أسماء بعض الأشخاص الذين شاركوه أوهامه عن الروس واستمعوا لإذاعة موسكو.

تجاوزًا للتفاصيل الجانبية – نزاعات، مصالحات، زيارات للمنتجعات (مذكرات عائلة كاملة في منمنمة)- وتجاوزًا لقائمة الأشياء التي سيحضرها والدي للمنزل والتي تدونها الموسوعة برعاية حميمية، سأذكر فقط مذياعًا من ماركة أوريون، الأعمال الكاملة لماكسيم غوركي، نبتة أولياندر في صندوق خشبي هائل، وبرميل لصنع المخلل، والذين أجدهم أكثر أهمية من بقية الأغراض التافهة المذكورة في الكتاب، بالإضافة إلى القماش المبطن الذي اشتريته له براتبي الأول مع قارورة كونياك احتساها في أمسية واحدة.

غير أن الموسوعة تهتم بأشياء أخرى غير الأغراض المادية: إنها ليست دفتر قوائم مشتريات، وليست قائمة بأسماء كما كتاب الملوك أو سفر التكوين، بالرغم من أنها كذلك جزئيًا؛ انها تتناول المسائل الروحية، رؤى البشر تجاه العالم والإله، مدى اعتقادهم بالحياة بعد الموت، قيمهم الأخلاقية. وهكذا فما يثير الدهشة هو هذا الانصهار الفريد للخارجي والداخلي: فهي تركّز باهتمام على الحقائق الصلبة، ومن ثم تنسج رابطًا منطقيًا بين هذه الحقائق والإنسان الذي تتعلق به، أو بالأحرى بروح هذا الإنسان. وبينما لا يعلق جامعو الموسوعة على بعض الجزئيات الموضوعية – محادثة عن الفروق بين الموقد الحجري والكهربائي (1969)، ظهور بقعة صلع في رأس والدي أو ميله المتزايد للشراهة، شراب البلسان المنعش الذي حضّره من وصفه أخذها من صحيفة بوليتيكا- فإنهما يفسرون ولعه المفاجئ بجمع الطوابع في آخر عمره كتعويض لتقلص قدراته الجسدية. ليس لديهم شك في أن فحص الطوابع عبر عدسة مكبرة يمثل، جزئيًا، الخيالات الناتجة عن الكبت التي تختبئ غالبًا داخل أولئك الأشخاص الرزينين والمستقرين والذين يفتقرون لنزعة السفر أو المغامرة -نفس النظرة الرومنسية البرجوازية المحبطة التي حددت سلوك والدي تجاه البحر. (فهو قد استبدل الرحلات والآفاق البعيدة بأخرى خيالية وأكثر راحة، مستعملًا اهتمام حفيده الأول العابر بمجموعة طوابع الفراشات كغطاء لكيلا يبدو سخيفًا في عيون الآخرين وفي عينه قبل كل شيء).

هذه كما ترى منطقة روحية لا تبعد كثيرًا عن منبع النهر، حيث تتوالى جنائز الأصدقاء والأقرباء واحدة تلو الأخرى بشكل متلاحق مجبرةً أي أنسان -حتى أولئك الذين لديهم ميول أقل للتأمل الصامت من والدي- على التحول إلى فلاسفة، بقدر ما نعرف الفلسفة بأنها تأمل معنى الوجود الإنساني.

ساخطًا على حياته، ومنزعجًا من كآبة الشيخوخة التي لا شيء قد يسكنها، لا بر الأبناء ولا محبة الأحفاد ولا الهدوء النسبي للحياة اليومية، بدأ بالعبوس وأصبح مخمورًا معظم الوقت. عندما يشرب، كان ينفجر في نوبات غضب مفاجئة من شخص بهذا الهدوء وتلك الابتسامة اللطيفة. لاعنًا الرب، الجنة، الأرض، الروس، الأمريكان، الألمان، الحكومة، وكل أولئك الذين تسببوا بتلقيه لهذا المعاش التقاعدي البائس بعدما خدم كعبد طوال حياته، ولكن ما كان يلعنه أكثر من كل شيء آخر هو التلفاز، الذي كان يملأ مساءاته -بصفاقة تقترب من الوقاحة- بالوهم العظيم للحياة.

 في اليوم التالي يستعيد ذاته من جديد، نادمًا بصمت، يتجه إلى الشرفة مطعمًا طائر الحسون، متحدثًا إليه ومصفرًّا معه، يرفع القفص عاليًا بيديه ملوحًا به كما لو كان مصباحًا في ظلمة المحن الإنسانية. أو، خالعًا بيجامته أخيرًا، يرتدي ملابسه بتذمر ويضع قبعته ماشيًا إلى شارع تاكوفسكا، إلى مكتب البريد الرئيسي، ليشتري الطوابع. ثم في فترة الظهيرة، مرتشفًا القهوة بينما يجثم على طرف كرسيه الخشبي وحفيده بجانبه، يرتب الطوابع في البومات بمساعدة ملقاط دقيق.

من فترة لأخرى وفي مراحل اليأس يعبر عن الندم تجاه حياته السابقة، متذمرًا كما يفعل كبار السن: كيف أن الرب لم يسهل له الحصول على تعليم مناسب، كيف سيرحل عن هذه الحياة وهو جاهل، لن يحس يومًا بتلك الملذات الراقية في الحياة، لن يرى بحار ومدن هذا العالم، ولن يعلم أبدًا عن تلك الأشياء التي يعرفها المثقفون والأغنياء.

ورحلته إلى تريستي انتهت بنفس الإحباط الذي رافق رحلته السابقة إلى روفيني.

كان في السادسة والستين من عمره عندما اجتاز الحدود للمرة الأولى بعد قدرٍ لا بأس منه من الشد والجذب. ولم تكن حججه أسهل للدحض أيضًا: الشخص الحاذق لا يذهب إلى بلد لا يجيد لغته؛ ليس لديه نية في أن يحقق ثروة في السوق السوداء؛ ليس لديه رغبة في المعكرونة أو مشروب الكيانتي فهو يفضل الموستار أو الزيلفاكا أو مشروف البروكوبلج الأبيض الذين يستطيع تناولهم في المنزل.

رغم ذلك نجحنا في إقناعه باستخراج جواز سفر.

رجع من السفر متجهمًا، منفعلًأ، محطمًّا: حصلت قطيعة بينه وبين أمي (الحذاء الذي اشترته له سرب المياه وتقلّص) الشرطة فتشتهم ونبشت أمتعتهم في رحلة العودة إلى بلغراد.

لا أحتاج لذكر أن رحلة تريستي -هطول المطر الحاد بينما يحتمي والدي بجدار فندق ادرياتيكو بلا مظلة، ضائعًا ككلب ضالّ وعجوز، بينما تفتش والدتي في الأحذية المعروضة في بونتو روسو- تتلقى تغطية في الموسوعة من النوع المفصل الذي تستحقه. عزاؤه الوحيد في هذه الرحلة البائسة كان شراؤه لبذور بعض الزهور من محل هناك. (لحسن الحظ كانت هناك صور مع ملصقات الأسعار بوضوح فلم يحتج إلى التحدث مع البائعة). "في ذلك الوقت كان د.م. قد أصبح مشتغلًا بزراعة زهور الزينة" كما تعبر الموسوعة. (بعد ذلك نجد سجلًا تفصيليًا للزهور الموزعة على قدور والصناديق في الشرفات الخلفية والأمامية لمنزله).

بدأ في الوقت ذاته بملء أوقات فراغه برسم الزهور في أرجاء المنزل في نوع من العدوى الزهورية. هذا التفجر المباغت لموهبته الفنية جاء مفاجئًا. بدأ الموضوع من سخطه -فقد كان والدي ساخطًا تجاه كل شيء- من الضابط المتقاعد، وهو رسام هاوٍ حيث قام بطلاء الحمام (بينما يغني نشيد "زحف الأنصار" طوال اليوم لكي يضبط ايقاعات فرشاته) تاركًا وراءه مناطق كبيرة غير مطلية وقبيحة، فسرّ والدي عن أكمامه وبدأ العمل بإصرار. بينما فشل في إزالة بعض البقع القاتمة على الجدار، قرر أن يغطيها بطلاء زيتي مجاريًا حدود اللطخات السابقة. وهكذا قدمت الزهرة الأولى -زهرة جرس أو سوسن ضخمة، لا يعلم إلا الرب ماذا كانت- إلى الوجود.

امتدحناه جميعًا. قدم الجيران لرؤية منجزه الفني. حتى حفيده المفضل عبّر عن إعجابه الصادق. وهكذا بدأ كل شيء. الخطوة التالية كانت نافذة الحمام التي ملأها بزهور ذرة زرقاء وضئيلة، بيد أنه تركها منحرفة وغير مكتملة بحيث يترك هذا التصميم المرسوم على الزجاج وهمًا بأن الزهور تحركها الرياح.

ومنذ ذلك الحين، أصبح يقضي أيامه كاملة بالرسم بينما تتدلى سيجارة بين شفتيه. (وفي الصمت نستطيع سماع أزيز رئتيه، كالمنفاخ). الزهور التي رسمها لم تكن تشابه الرسوم في العالم الواقعي، كان يرسمهم على سراويل داخلية قديمة، الأباجورات الصينية، قوارير الكونياك، المزهريات الزجاجية، علب النسكافيه، وعلب السجائر الخشبية. على الخلفية النيلية لمطّارة مياه غازية كبيرة دوّن أسماء مقاهي بلغراد بالخط نفسه الذي استعمله لكتابة أسماء الجزر على الخريطة: البريوني، خليج الكتر، النورس، البحّار، الفجر، مقهى صربيا، بوابة فيدين، بوابة إسطنبول، السكادارليجا، القبعات الثلاثة، الغزالين، تحت الزيزفون، ثلاثة عقود من العنب، الشوماتوفاك، الأيام السبعة، السير على نهر درينا، الكاليماجدن، الكولاراك، الوطن، الفلّاح، أوبرينوفاك، اوبليناك، بلدة دوشان، منبع النهر، السميديرفو، قرن الصيّاد، علامة الاستفهام، الفرصة الأخيرة.

المفارقة الغريبة في وفاته في يوم احتفال حفيده الأول بعيد ميلاده الثاني عشر لم تغب عن انتباه جامعي الموسوعة. ولم يغفلوا أيضًا معارضته لتسميتنا لحفيده الأخير تيّمنًا به. ظننا أننا بذلك سنرضي كبرياءه وأنه سيراها كبادرة اهتمام وامتنان، ولكن كل ما فعله هو التذمر بينما رأيت في عينيه بريقّا من الخوف سيشعّ لاحقًا من خلف نظاراته بعد سنة عندما يوقن أنه نهايته قد حانت أخيرًا. خلافة الجديد للبائد، الخرافة الكونية لتسلسل الأجيال، السلوان العابر الذي يخترعه الإنسان ليجعل من فكرة الموت أكثر قبولًا – في تلك اللحظة اعتبرها والدي كإهانة؛ كما لو أنه بسحرٍ ما، بتسمية الحفيد الجديد باسمه، مهما كان مدى صحته وعافيته فنحن "ندفعه إلى القبر دفعًا." لم أعلم وقتها أنه اكتشف نتوءًا مقلقًا في حَنيّته واعتقد، أو بالأحرى علم، أنه كالدرنة: كانت هناك نبتة غريبة وسامّة تنمو في أحشائه.

يوثّق أحد أواخر الفصول في الموسوعة تفاصيل تشييع الجنازة: اسم الكاهن الذي أجرى الطقوس الأخيرة، وصف أكاليل الزهور، قائمة بالأشخاص الذين شيعوا الجنازة من الكنيسة، عدد الشموع التي أوقدت من أجل روحه، نص النعي الذي نشر في صحيفة البوليتيكا.

تولّى زميله في مكتب مصلحة الأراضي، نيكولا بيشيفيتش، إلقاء الخطبة على نعشه ("الرفيق دجورو خدم وطننا الأب بشرف وتفانٍ قبل الحرب، وأثناء الاحتلال، وبعد الحرب في فترة إعادة الإحياء والبناء لبلدنا المدمّرة والمنكوبة للأسف") وتورد الخطبة بأكملها، لأنه على الرغم من بعض الابتذالات والمبالغات، ورغم بعض الهفوات البلاغية، كانت خطبة بيشيفيتش أمام جثة رفيقه ومواطنه تمثيلًا لجزء من المبادئ والرسالة التي تطرحها موسوعة الموتى العظيمة ("ذكراه ستبقى دومًا وإلى الأبد، الثناء والمجد لروحه!").

حسنًا، يمكن القول إن هذه كانت النهاية، حيث تتوقف ملاحظاتي المدونة. لن أذكر القائمة المؤسفة للأغراض التي تركها وراءه: قمصان، جواز سفر، وثائق، نظارات (ضوء النهار يتلألئ بألم على عدسات فارغة أخرجت للتو من علبتها) – بكلمات أخرى، أعطيت هذه الأغراض لوالدتي من المستشفى في اليوم الذي يلي وفاته. كل ذلك مدوّن بعناية فائقة في الموسوعة؛ لا يوجد ولو منديل منسيّ، ولا حتى سجائر المورافا أو عدد الالوستروفانا بوليتيكا مع أحجية الكلمات المتقاطعة التي حل نصفها بيده.

ثم تأتي قائمة أسماء الأطباء، الممرضات، والزوار، اليوم والساعة التي أجرى فيهما عمليته (حيث قام الدكتور بيتروفيتش بفتح جسده ومن ثم خياطته، مدركًا مدى عبثية هذه العملية؛ كان الورم ممتدًا إلى أعضائه الحيوية). لا أملك القوة لوصف النظرة التي رمقني بها عندما ودعني قبل يوم أو يومين من إجراء العملية؛ تضمنّت نظرته حياة كاملة وكل الرعب الذي يأتي من معرفة الموت. كل ما يمكن أن يعرفه إنسان حي عن الموت.

وهكذا، متجمدةً ودموعي تنسكب، قضيت بضعة ساعات في تصفّح الفصل المختص بوالدي في الموسوعة. فقدت احساسي بالزمن. هل قضيت ساعة في هذه المكتبة المتجمدة؟ أم أن الصباح قد طلع بالفعل؟ كما قلت، فقدت احساسي بالزمن كليّاً. استعجلت لتدوين أكبر قدر من المعلومات استطعت تدوينه؛ أردت دليلًا، لساعات اليأٍس، أن حياة والدي لم تذهب هباءً، أن هناك بشرًا لا زالوا يدونون ويوثقون قيمة كل حياة، كل مصيبة، كل وجود انساني. (عزاء هزيل، لكنه عزاء على أية حال.)

فجأة، بينما أتصفّح الصفحات الأخيرة في الفصل المخصص له، لاحظت زهرةً، زهرة غير اعتيادية، في البداية ظننتها صورة تشكيلية لنبتة محفوظة في عالم الموتى كمثال على فصيلة منقرضة. لكن النص المرفق بها وضّح أنها كانت النمط الذي رسم عليه والدي كل زهوره. بيدين مرتعشتين بدأت بنسخ الرسمة. بدت الرسمة أقرب من أي شيء آخر إلى برتقالة عملاقة مقشّرة ومقطّعة، وتتقاطع مع خطوط حمراء أشبه بالأوعية الدموية. لوهلة شعرت بالإحباط. كنت معتادة على كل رسومات والدي التي رسمها على الجدران، الألواح، القوارير، والصناديق، ولا شيء منها يشبه هذه الرسمة. نعم، قلت لنفسي، حتى هم قد يخطئون! ومن ثم، بعد أن نسخت البرتقالة العملاقة المقشرة في دفتري، قرأت القطعة الأخيرة وأفلتت مني صرخة. استيقظت والعرق يتصبب من جسدي. كتبت فورًا كل شيء استطعت تذكره من الحلم. وهذا هو ما تبقى منه...

هل تعرف ما كانت القطعة الأخيرة؟ أن د.م. بدأ الرسم في الوقت الذي ظهرت عنده أول أعراض السرطان. وأن هوسه برسومات الأزهار توافق تمامًا مع تفاقم مرضه.

عندما عرضت الرسمة على الدكتور بيتروفيتش أكد لي، متفاجئًا، أنها بدت تشبه تمامًا الورم الذي نما داخل أعضاء والدي الداخلية. وأن إزهاره قد استمر لسنوات بلا شك.

 

 

 

(1) سيبيروس: كلب حراسة متوحش بثلاثة رؤوس يحرس بوابة العالم السفلي في الميثولوجيا اليونانية.

(2) التشيتنيك: كتائب صربية متعصبة نشأت في الجيش اليوغوسلافي أثناء الحرب العالمية الثانية، وعادت فلولها للظهور بعد تفكك يوغوسلافيا في التسعينات.

(3) فولكس دويتشه: مسمى يطلق على الأشخاص ذوي اللغة والثقافة الألمانية ممن لا يملكون الجنسية الألمانية.


موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...