الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

الحياة: دليل المستخدم

الصورة



"في هذه الشقق هناك أحلام لكل شخص، لن أعرف شيئاً عن كل هذه الأفكار، هذه هي الحقيقة"
هكذا يتحدث بيأس (كايدن كوتارد) بطل فيلم كوفمان العظيم Synecdoche New York عن العالم الذي صنعه بنفسه، الفيلم الذي يصور هوس الشخصية بكتابة مسرحية تعبر عن كل شيء، مسرحية تلخص الحياة، تعبر عن كل شخص وتروي كل قصة، هذا المشروع الهائل يستمر في التوسع بشكل مستمر حتى يغرق المؤلف في عمله الشخصي. هذه الرغبة في إنتاج عمل يعبر عن الحياة بأسرها طبعت الكثير من الأعمال الفنية والأدبية، بعض هذه الأعمال تحمل طابع الإيجاز وتلخص كل شيء في فكرة بسيطة ورئيسية كمسرحية صامويل بيكيت Breath أو كهذا الفيلم التحفة The House of Small Cubes. وعلى الجهة الأخرى تتجسد هذه الرغبة في أعمال عملاقة وملحمية أطول من المعتاد كفيلم The Best of Youth ذو ال6 ساعات. إلى النوع الثاني من الأعمال - إن صح التعبير- تنتمي رواية جورج بيريك (الحياة: دليل المستخدم). إشارتي لفيلم كوفمان لم تكن بسبب تشابه الطموح بين العملين فقط، بل لأن الاقتباس يعبر تماماً عن محتوى الرواية كما تعبر شخصيات كوفمان الذي أظنه تأثر كثيراً بعمل بيريك كما سأشير لاحقاً، بيريك في روايته يصور عمارة سكانية أيضاً، وينتقل بين غرفها متناولاً تفاصيلها الدقيقة، ماضيها، سكانها، والأفكار والأحداث المرتبطة بكل ركن فيها. لا يوجد مكان أنسب وأكثر حميمية لتجسيد الحياة من المنزل، الأماكن التي تعبر كل قطعة وكل زاوية فيها عنا، والتي نقضي فيها الجزء الأكبر من حياتنا ونخوض فيها معظم تجاربنا، ونتعايش مع أكثر مشاعرنا خصوصية، كل ركن وكل قطعة قد ترتبط بحدث أو قصة أو فكرة. لذلك دائماُ ما مثّل الابتعاد عن المنزل أحد أكثر التجارب وجدانية، احساس حزين بالانفصال عن حياة سابقة.

الرواية تمثل عملاً فريداً من نوعه بمعنى الكلمة، الرواية تُقرأ كما تتذوق لوحة فنية، أو لأكون أكثر دقة، كما ترتب لوحة مجزأة إلى قطع صغيرة تمثل أحجية. هذا الإحساس بأنك أمام لوحة فنية عائد لطريقة السرد أولاً، وللزمن الثابت خلال الرواية ثانياً. الرواية التي تقارب ال600 صفحة تدور أحداثها خلال لحظة واحدة. الزمن متوقف خلال الرواية في لحظة لاتكاد تبدو ذات أهمية على الإطلاق، جميع الشخصيات تؤدي أعمالاً رتيبة ويومية خلال هذه اللحظة. وطريقة السرد تضفي أيضاً طابع اللوحة الفنية. كل فصل من الرواية يتناول غرفة في المبنى الضخم، يأخذ الراوي بيد القارئ ويصف كل محتويات الغرفة حتى يجسد صورة متكاملة لها بأدق التفاصيل ، هذه النظرة تتم من زاوية معينة، بعض الشخصيات تدير ظهرها للكاتب (والقارئ!) في اللحظة التي تحدث فيها الرواية، مما ينمي الشعور بأنك أمام لوحة فنية. لذلك فصل بعد فصل يتزايد شعور القارئ بالألفة مع اللوحة، كل غرفة/قطعة جديدة من الأحجية تساهم في رسم الصورة الكاملة للمبنى، العلاقات المتشابكة بين الأفراد، والقصص التي تشكل تاريخ المبنى وأفراده. الرواية تولي اهتماماً إضافياً بالرسم، كل غرفة تقريباً تحوي عدداً من اللوحات المعلقة، واللوحات -كأي قطعة أخرى في المبنى- تنال نصيبها من الشرح المفصل والذي يمتد لتاريخها وقصص الشخصيات التي تصورها.

شخصياً أميل لكل فنان/أديب يولي اهتماماً شديداً بالتفاصيل الصغيرة، أقدر كل عمل جمالي يحتفي بالشاعرية الكامنة في التصرفات التافهة، أو الممتلكات عديمة الأهمية، هذه التفاصيل التي تبدو تافهة للوهلة الأولى تحكي الكثير عن شخصياتنا وحياتنا، أقدر كل عمل يركز على هذه التفاصيل. بيريك في هذه الرواية تجاوز الاهتمام بالتفاصيل إلى مرحلة الهوس، حيث كل قطعة في هذا المبنى الضخم تنال نصيبها من الضوء، لاشيء يتم تجاهله في هذه اللوحة الضخمة المسماة (الحياة)، عندما يصف الراوي غرفة ما يذكر حتى الأغراض المرمية على الأرض، الاعلانات التافهة، المجلات، الكتب، الأواني، الملابس المبعثرة. ولا يكتفي بالوصف العابر بل يمتد لأدق التفاصيل، عندما يكون الكتاب مفتوحاً في الغرفة يذكر اسم الكتاب والطبعة والصفحة المفتوحة بل وحتى العبارة التي تظهر على الصفحة. وعندما انتقل للحديث عن المخزن في القبو مثلاً خصص 4 صفحات لذكر كل محتويات المخزن بأسمائها، البهارات والمؤن الغذائية والشراب والأواني والتحف والأدوات المهملة. هذا الهوس الذي يمكن وصفه بالمَرَضي هو أحد أهم مميزات اسلوب بيريك الروائي. القوائم اللانهائية المتناثرة على طول الكتاب كثيراً ماتكون ممتعة للقارئ رغم طولها المبالغ فيه والذي يمثل اختباراً لكسل القارئ وقدرته على المواصلة. بيريك هو أكثر كاتب مهووس بالتفاصيل مر علي في حياتي، لا يملك القارئ سوى أن يبتسم أمام القوائم المجنونة والتفاصيل الدقيقة في الرواية، لا أظن كاتباً في العالم يخصص صفحتين كاملتين لكتابة وصفة لطبخة اخترعتها أحد الشخصيات، أو لإدراج قائمة بمنتجات شركة عناية منزلية تتضمن قياسات كل قطعة.

السمة الأخرى المميزة في الرواية هي الحشد الهائل للقصص والحكايا والتي تبقي القارئ مشدوداً للقراءة طوال الوقت، بيريك يصنع حكاية من كل شيء، يمضي صفحات طويلة في وصف رواية متخيلة تقرأها أحد الشخصيات، أو قصة تصورها لوحة معلقة في أحد غرف المنزل، قصص تروي التاريخ الطويل لبعض القطع والطريقة التي انتهت بها لأيدي أحد الشخصيات، تاريخ المبنى وسكانه السابقين، وبالطبع، تاريخ قاطني المبنى الآن واهتماماتهم وهمومهم. شخصيات بيريك التي نجدها في هذه الحكايات هي شخصيات مجنونة غالباً، كثير من الشخصيات تصاب بنوع من الهوس المرضي تجاه موضوع معين وتفني حياتها من أجله، لذلك تناولت في بداية التدوينة شخصية كايدن كوتارد الذي يقضي حياته محاولاً صنع المسرحية الأكمل، هكذا، معظم الشخصيات في قصص الرواية مسكونة بهذا القلق، الرغبة في تحقيق هدف ما، قد لايمثل هذا الهدف انجازاً بمستوى تقديم عمل أدبي خالد، بل في كثير من الأحيان تكون هذه الأهداف عبثية وبلا معنى، التجسيد الأبرز لهذه العبثية هي الشخصية الأساسية في الرواية (بارتلبوث) -الذي يبدو أنه يمثل بيريك نفسه بطريقة ما- بارتلبوث يكرس حياته من أجل هدف واحد ويضع خطة طويلة لتحقيق هذا الهدف، سيتعلم الرسم لمدة 10 سنوات، بعد ذلك سيجوب العالم لمدة عشرين سنة ويرسم 500 لوحة في 500 ميناء حول العالم، هذه اللوحات ستحول إلى أحجيات من 750 قطعة، عندما يعود لشقته سيقضي العشرين سنة القادمة في حل كل أحجية، ومن ثم يرسل اللوحة لمكان رسمها حتى يتم تدميرها. شخصية بارتلبوث الغامضة والمهيبة من أقوى الجوانب في الرواية، وجود كثير من الشخصيات في المبنى مرتبط به بطريقة أو بأخرى، لذلك يبدو أن وجوده في الرواية هو لتجسيد شخصية بيريك، بينما يصنع بارتلبوث أحجياته من الرسمات يصنعها بيريك بواسطة الكلمات. الرواية مليئة بالشخصيات الشغوفة بشكل هوسي، هوس يؤدي في أحيان كثيرة إلى عواقب وخيمة، يبدو أن هذه السمة مترسخة في شخصية بيريك، هو نفسه روائي مهووس أمضى 9 سنوات في كتابة هذه الرواية وتطعيمها بكل هذه التفاصيل والقصص، بالأضافة إلى شغفه بالألعاب اللغوية، روايته ( La Disparition ) ذات ال300 صفحها كتبها بدون استعمال الحرف e. ثم كتب قصة (Les Revenentes) بدون استعمال باقي حروف العلة A,I,O,U! حتى رواية الحياة: دليل المستخدم تحوي ألعاباً على مستويات مختلفة، المبنى مكون من عشرة طوابق وفي كل طابق عشرة غرف، الانتقال من غرفة لأخرى (أو من فصل لآخر) يتم عن طريق حركة الفارس في لعبة الشطرنج، حيث ينتقل بين الغرف ال100 بدون تكرار اي غرفة، وفي الرواية 42 قائمة مكونة من 10 عناصر، هذه القوائم مصممة حسب لعبة شبيهة بالسيدوكو حيث كل قائمة تحوي ثيمتين أو تصنيفين (مثلاً: خطأ، قماش). هذه الألعاب ليست مستغربة من بيريك الذي ينتمي لحركة أوليبو الفرنسية وهي حركة تجريبية أنشأها أدباء ورياضيون حيث يقدم أفرادها أعمالاً أدبية تلتزم بقواعد وقيود غريبة.


الرواية أيضاً تحوي ألعاباً لفظية كثيرة لاتنقلها الترجمة (كلمات مخبأة وسط الجمل، مثلاً calvi, notant avic تحوي اسم الروائي الايطالي Calvino داخلها). الشكر لكيليطو لمعرفتي بالمعلومة السابقة، أنصح بقراءة مقاله في كتاب (من شرفة ابن رشد) بعنوان (بيريك والحريري) وهو مقال يقترح فيه علاقة بعيدة الاحتمال -كالعادة- بين الحريري وبيريك بناء على شغف الاثنين بالألعاب اللغوية. ربط كيليطو مبني أساساً على تواجد اسم الحريري في مجلة علمية تعتلي كومة من الاوراق والدراسات في ممر المبنى -في الرواية طبعاً!- المجلة متخصصة باللسانيات ومفتوحة على صفحة الفهرس، أحد الدراسات في الفهرس تخص الحريري، إشارة مثيرة للاهتمام نظراً لعدم ترجمة الحريري للفرنسية حتى وقت كتابة الرواية. الحريري ينضم في ذلك لحشد هائل من الأعلام والعناوين تحويها الرواية، التنوع الهائل والكونية التي تجسدها الرواية تضفي متعة أكبر على القراءة، الإحساس بأن الكاتب يعرف كل شيء عن كل شيء والتطلع الدائم للموضوع القادم -والمفاجئ- في الرواية، ينتقل بيريك بين الرياضيات والفيزياء والكيمياء والاقتصاد والطب واللسانيات والطبخ ومواضيع أخرى كثيرة! وأحداث وشخصيات الرواية تنتمي لكل مكان في العالم، عشرات الشخصيات من العالم العربي، شخصيات أخرى كثيرة تنتمي إلى آسيا وأمريكا اللاتينية وأمريكا وأوروبا، القصص تدور في أزمنة مختلفة، قصص فرسان وعشاق، لصوص وعلماء، فنانين وغرباء أطوار ومحتالين. قصص تغطي كل شيء وتتناول كل فترة زمنية.

شخصياً أعتبر هذه الرواية أحد أبرز الانجازات الروائية في القرن الأخير بلا تردد، أصالة الرواية وتفردها والجهد الهائل المبذول فيها يؤهلها لهذه الرتبة، وفيما قد تبقى معظم الرموز والألعاب اللغوية مخفية للأبد، لاشك بأن لوحة بيريك الفنية هنا مذهلة وساحرة، صورة الحياة كأحجية معقدة ومتشابكة مكونة من تفاصيل وعلاقات وأحداث بتفرعات لانهائية، في هذه الرواية يرسم الكاتب أحجية مصغرة لمبنى واحد، القراءة هنا هي الوسيلة لتركيب هذه الأحجية وفهم الدوافع والخلفيات والرغبات والاهتمامات لكل شخصية، ربما تساهم القراءة أيضاً في تكوين فهم -ولو طفيف- للأحجية الأكبر، الحياة.


Artwork by Anne de Brunhoff, Georges Perec, Made of Silver print
جورج بيريك

11, Rue Simon Crubellier
(مخطط لطوابق المبنى حيث تنتقل الرواية من غرفة لأخرى)



هناك تعليق واحد:

  1. Rental, Casinos & Slots - Dr.MCD
    Find the 대구광역 출장샵 best casino games 동두천 출장안마 & slots on 익산 출장마사지 Dr.MCD. Play for free or real money online. Find the best 춘천 출장샵 slot 안성 출장마사지 machine games at Dr.MCD now!

    ردحذف

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...