الجمعة، 4 يونيو 2021

الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى



إن كان هناك كلمة وحيدة يمكن من خلالها وصف ديفيد غريبر كمفكر، فهي أنه متمرد. هذا التمرد يتجلى في عناوين كتبه وفي مقالاته وإسهاماته الفكرية التي تشترك في سعيها لرواية التاريخ البشري من زاوية مختلفة، ولهدم السرديات المضللة والتي تفسر التاريخ بطريقة حداثية. كتاب غريبر (الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى) هو أبرز مؤلفاته والسبب الرئيسي لشهرته، يتناول فيه تاريخ المال (أو الدَّين إن أردنا اتباع خطه السردي). يتوقع القارئ قبل قراءة للكتاب أن يكون أمام عرض تاريخي للاقتصاد ونشأة المال، ولكن عندما تتعرف على أفكار غريبر، تدرك أن آخر ما يسعى لتقديمه هو نظرة "اقتصادية" للعالم، فحسب رأيه، نشوء حقل الاقتصاد نفسه هو سبب في نظرتنا الخاطئة للعالم. يتناول الكاتب الأسس التي نشأ عليها علم الاقتصاد على يد آدم سميث، والمنطلقات المضللة التي بنى عليها سميث أفكاره، يلخّص المؤلف أثر آدم سميث بالآتي: "بعد تأسيس علم الاقتصاد على فرضيات سميث، لم تعد النقاشات حول الأسس مطروحة. استمر النقاش حول صحة النتائج التي يمكن أن تقدمها فرضيته عن السوق، لكن لم يعد أحد يسأل: هل وجود السوق ذاته هو أمر طبيعي؟". بدلاً من تقديم نظرة اقتصادية خالصة لفهم تاريخ المال والسوق والعلاقات الإنسانية، يقدم الكتاب تاريخاً اجتماعياً للعالم (يساعد في ذلك الخلفية الانثروبولوجية للمؤلف)، تبدأ السردية من ديناميكية التعاون عند الشعوب البدائية، ومن ثم التغيرات التاريخية بدءاً من الثورة الزراعية ومروراً بنشوء الدول والأنظمة الأبوية ومن ثم صعود الديانات السماوية ووصولاً للعصر الحديث وهيمنة الرأسمالية.

يبدأ المؤلّف كتابه باستعراض الرواية التقليدية لنشوء المال والتي قدمها سميث في كتابه ولازالت سائدة إلى اليوم. تنطلق هذه الرواية من عالم متخيل في عصر بدائي، عندما يحتاج فرد في هذا العالم الحصول على غرض معين، يضطر إلى مقايضته بغرض آخر يمتلكه، يواجه الناس في هذا النظام معضلة عدم توافق احتياجاتهم مع رغبات الآخرين، فعدم رغبة الطرف الآخر فيما تعرضه سيقف حائلاً دون إتمام المقايضة. لحل هذه المعضلة، تم اختراع المال كوسيط لتبادل السلع. الإشكالية الأساسية في هذا العرض التاريخي هو افتراض أن التبادل التجاري هو نمط التعامل الطبيعي بين البشر وأن "السوق" موجود في كل مجتمع بشري، بينما تثبت الأدلة التاريخية والأنثروبولوجية عدم صحة هذا الافتراض. لا يكاد يمر يوم لا نقرأ فيه نقداً -أو شتيمةً- للرأسمالية وأثرها في حياتنا، لكن دائماً ما أتساءل إن كنا نستطيع فعلاً فهم الأثر التي تتركه في حياة الناس؟ ماذا يعني أن تعيش في عالم غير رأسمالي؟ النقطة الهامة التي يشير لها هذا الاعتراض هو تغلغل هذا التصور في أذهاننا وصعوبة تخيل عالم لا يحكمه السوق، تبدو لنا الرأسمالية هي النظام الطبيعي لسير الحياة منذ الأزل. ولكن على عكس هذا التصور، حضور السوق لم يكن فعّالاً سوى في مراحل تاريخية قليلة من التاريخ البشري وفي بقع جغرافية معينة، ونشأة السوق دائماً ما ارتبطت بعاملين أساسيين: نشوء الدولة، ونشوب الحروب. لم يشكّل التبادل التجاري ووجود السوق جانباً أساسياً في حياة السواد الأعظم من البشر في التاريخ، بل وحتى النقود الذهبية التي نفترض وجودها الدائم (على الأقل خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة) لم يلمسها معظم البشر طوال حياتهم في مناطق مثل أوروبا والصين والهند حتى النصف الأول من الألفية الماضية. بدلاً من التبادلات التجارية اللحظية والعملية والمفرغة من أي مشاعر أو روابط اجتماعية، الشكل السائد للتبادل خلال معظم فترات التاريخ الإنساني كان مبنياً على التكافل الاجتماعي ومصداقية الأفراد والديون المتبادلة بين أفراد المجتمع.

كيف تم "اختراع" المال إن لم تكن الرواية الرأسمالية السائدة دقيقة؟ النقطة الأولى التي يشير إليها الكاتب قبل الإجابة على هذا السؤال هي أن وصف المال بالاختراع ليس دقيقاً لأنه يسقط مفهومنا الحالي للمال كماهية ذات وجود مادي مستقل، بينما لم يكن المال في أجزاء كبيرة من التاريخ الإنساني سوى تصوّر ذهني مجرد؛ وحدة قياس خيالية تنظم التعاملات بين أفراد المجتمع الواحد، لكي يحدد الانسان مقدار ما يدين به لشخص آخر فهو يستعمل وحدة قياس مشتقة من الحياة اليومية للمجتمع الذي ينتميان إليه، تختلف وحدات القياس باختلاف المجتمعات ومواردها ومن الأمثلة على العملات/وحدات القياس: الملح والأصداف والشعير والجواري(!). وخلال النصف الأول من الألفية الماضية كانت التعاملات المالية في أوروبا تقاس بالعملات الرومانية رغم عدم وجودها على أرض الواقع. كانت التعاملات الشخصية تقاس بالمال لكن لم يكن المال نفسه هو ما يتم تداوله.

ما هو النمط السابق للتبادل التجاري إذن؟ يقترح المؤلف: الدّين. وببحث انثروبولوجي مفصّل يتناول تطوّر مفهوم الدّين، وتداخله مع العقائد الأخلاقية والدينية وصورته في الخيال الجمعي الإنساني، والأدلة على وجوده في المرحلة السابقة لتغوّل السوق. في المجتمعات التي يعرف الجميع فيها بعضهم، لا يكاد يكون هناك أي وجود للتبادل التجاري بين أفراد المجتمع، والاستثناء الوحيد لذلك هو عند التعامل مع الغرباء. أما بين أفراد المجتمع فالتعاملات تتم على أساس التعاون المشترك الذي يأخذ إما شكل المساعدة، أو الدين. يختلف الدَّين عن التبادل التجاري في أن الأول يستوجب الحد الأدنى من المعرفة والثقة المتبادلة بين الطرفين، أما التبادل التجاري فهو تعامل يفتقر للجانب الشخصي وبنسبة كبيرة للثقة في دوافع الآخر، التبادل التجاري هو عملية لحظية وغير شخصية تنتهي فيه علاقة الطرفين ببعضهما بانتهاء عملية الشراء، على عكس تبادل الديون والخدمات الذي يمتد إلى فترة طويلة ويفترض استمرار العلاقة بين الطرفين. يذكرني ذلك ببيت شعري لخالي رحمه الله قبل 60 عاماً عندما انتقل من البادية إلى المدينة ليعمل سائقاً للأجرة: (كدّ التكاسي ليتنا ما عرفناه**ما شفت ناسن صحبته بالدقيقة!). الديون المتبادلة في المجتمعات الصغيرة هي شكل من أشكال التكافل الاجتماعي واعتماد الناس على بعضهم، يشير المؤلّف إلى مجتمع أفريقي تقوم عوائله بإرسال هدايا إلى بعضها البعض، وعند ارسال هدية مقابلة يحرص المرسل على ألا تتساوى قيمة الهدية الممنوحة والمستقبلة، لأن ذلك يعني أنه تم تسوية الدين وأن المرسل لا يرغب بمواصلة التبادل مع الآخرين وهو ما يشكّل إهانة فظيعة، بدلاً من ذلك يقدم المرء هدية تكون قيمتها أعلى قليلاً أو أدنى قليلاً من الهدية المستقبلة، مما يعني استمرار علاقة تكافلية بين عوائل القرية.

يقدم الكاتب مفهوماً مثيراً للمرحلة السابقة لشيوع التبادل التجاري، يقسّم الاقتصاد إلى اقتصاد بشري واقتصاد تجاري، في المجتمعات البدائية ينعدم وجود الاقتصاد التجاري لكن الاقتصاد البشري يحضر فيها بشكل بارز. يشير مفهوم الاقتصاد البشري إلى التعاملات التي تتضمن منحاً للممتلكات الشخصية إلى طرف آخر في مقابل الحياة الإنسانية! أبرز الأمثلة على هذا النوع من التعامل هما المهر والدية (البحث الخاص لتباين هذين التقليدين في مجتمعات مختلفة مثير للاهتمام). هذا النوع من التعاملات ليس تجارياً، أي أن المبلغ ليس ثمناً للحياة البشرية، فكل عناصر التبادل التجاري لا تتوفر في هذه العملية، يثير تفسير هذه التعاملات جدلاً في الحقل الانثروبولوجي، لكن يميل المؤلّف إلى تفسيرها بأنها إقرار بدين لا يمكن تسديده (وهو تفسير يبدو متكلفاً بالنسبة لي). يشير المؤلّف إلى أن التبادل التجاري ينهي التعامل بين الطرفين المشاركين فيه، لكن دفع الدية مثلاً لا يعني التسوية والتراضي بين الطرفين ولا يذهب الضغينة بينهم، وفي ثقافات كثيرة تميل عوائل القاتل والمقتول إلى تجنب اللقاء ببعضهما إلى الأبد، الدية هنا ليست ثمناً لحياة المقتول، لكنها اعتراف من ذوي القاتل بالذنب المقترف وباستحالة تسويته، اعتراف يهدف للحد من حوادث الثأر ولا يكفّر عن فداحة الجرم. ولذلك يزعم المؤلف أن الديات غالباً تكون محددة مسبقاً ولا تتفاوت بتفاوت مكانة وأهمية المجني عليه، لأنها ليست ثمناً.

أحد أسباب اهتمامي بالكتاب هو الضجة التي تحيط بالعملات الالكترونية مؤخراً والسؤال الذي يلح علي: (ماهو المال؟ وكيف نعرفه؟). أحد أهم الشخصيات في عالم العملات الرقمية تشارلز هوسكنسون يزعم أنه في المستقبل لن نفكر بثرواتناالصغيرة كدولار/يورو/ريال، بينما كمجموعة متنوعة من العملات والقسائم والtokens حيث يمكننا شراء أي شيء بأي نوع من الممتلكات لدينا، ويستطيع البائع الحصول على الثمن بأي شكل يريده. هذا المفهوم بدا لي غريباً وقتها، لكن المثير أن هذا النوع من التبادل ليس غريباً على التاريخ البشري كما يشير الكتاب، بل يزعم المؤلّف أن كل التعاملات في تاريخ الحضارة الإنسانية تمت بهذه الطريقة حتى عهد قريب. لم تكن العملات النقدية رائجة إلا في الومضات القصيرة من عمر الإنسانية التي نشأت فيها أسواق كبرى بسبب عاملي الوجود القوي للدولة والحروب المستمرة، بالإضافة لانتشار العبودية -نظراً للدور المهم للعبيد في سك العملات-. يلاحظ المؤلف أن شيوع العملات النقدية ارتبط بالفترات الأكثر توتراً سياسياً وعسكرياً، وبوجود الجيوش المنظمة حيث لا يمكن إجراء التعاملات بالطرق التقليدية المعتمدة على المعرفة والممتدة لفترات زمنية طويلة، في هذه الظروف تنشأ الحاجة لتعاملات لحظية وغير مبنية على الثقة.

يكاد يكون الاستثناء الوحيد لحضور السوق واستعمال العملات النقدية هو في الحضارة الإسلامية حيث استمر ذلك لقرون طويلة نظراً للتركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات المسلمة مقارنة بنظرائها. إشارة الكاتب للاقتصاد الإسلامي مثيرة للاهتمام بالنسبة لي، هناك جوانب كثيرة من تميز الحضارة الإسلامية نفكر فيها عادةً، الحياة الفكرية والتنوع الفكري والاسهامات الفلسفية والترجمة، الإنجازات العلمية المتنوعة، الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية، وغيرها. لكن هذا الكتاب لفتني لجانب مهم وهو تعاطي الحضارة الإسلامية مع دور التاجر، والوضع المميز للاقتصاد الإسلامي كسوق مستقل عن الدولة وتشجيع الثقافة الإسلامية للتجارة وتعزيز صورة التاجر المسلم. بالمقارنة مع الحضارات الصينية والهندية والعصور الوسطى الأوروبية، كانت الحضارة الإسلامية متقدمة بسنوات ضوئية من الجانب الاقتصادي. المبحث الخاص بالاقتصاد الإسلامي يستحق القراءة.

ينطلق الكتاب في رحلة طولها 5000 عام من الحضارة الإنسانية يتناول فيها مفهومنا للمال والدين والتبادل التجاري، لكن يتناول أيضاً تداخل هذه المفاهيم مع الفكر الإنساني وأثرها على المجتمعات المختلفة. على سبيل المثال، لماذا تعبر معظم الثقافات عن مفاهيم الواجبات الدينية والاجتماعية كديون يجب تسديدها؟ او لماذا نميل لاعتبار أخذ الدّين فعلاً مستنكراً من الناحية الأخلاقية؟ يصعب حصر مباحث الكتاب لتنوعها لكن أذكر منها بحثه في الاقتصاد البشري وفي نشأة العبودية، أحد الجوانب التي أقدّرها أيضاً في الكتاب تداخل مجالات متنوعة من البحث في أصول الكلمات لغوياً إلى المقارنة بين مجتمعات على درجات متباينة حضارياً وتقنياً، بالإضافة إلى السرد الممتاز للتغيرات التي طرأت على الاقتصاد في أماكن متباعدة من العالم خلال البضعة آلاف سنة الأخيرة. يشكّل الكتاب بلا شك وجبة دسمة للقراءة، وإن كان تفسيره للتاريخ مادياً بدرجة متطرفة في بعض الأحيان وهو أحد أهم مآخذي على الكتاب، بالإضافة إلى الاستطراد المضلل أحياناً وإطالة بعض فصول الكتاب بلا داعِ. عدا عن ذلك، يحوي الكتاب كماً كبيراً من الحقائق والأفكار الصادمة والتي تتحدى السرديات السائدة، لذلك أعتبره قراءة لا غنى عنها للمهتمين. 

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...