الأحد، 23 يوليو 2023

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس



كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. شاهدت خمسة أو ستة عروض، أجدرها بالذكر تجسيد لجودو للسجناء. كنت لا أزال أعيش في ذاك العالم البعيد الأشبه بالحلم عندما عدت للوطن بعدها بعشرة أيام.

السيدة جونسون كانت امرأة مثابرة، أرادت أن أشاهد خلال هذه الأيام العشرة كل ما يستحق المشاهدة في السويد، كل ما يمكن أن يثير اهتمامي "كامرأة". حتى أنها رتبت زيارة "فاسا" الشهيرة، السفينة التي انتشلت كمومياء فرعونية من قاع البحر بعد مئات السنوات من غرقها. ذات مساء، بعد حضور سوناتا الشبح في مسرح الدراماتن، أخذتني مضيفتي الى المكتبة الملكية، وبالكاد وجدت الوقت لتناول شطيرة في حانة.

كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة وقتها، وكان المبنى مغلقاً. لكن السيدة جونسون أظهرت رخصة للرجل الواقف في الباب فسمح لنا بالدخول، متمتماً. حاملاً مجموعة كبيرة من المفاتيح، كما كان الحارس الذي سمح لنا بالدخول للسجن لحضور مسرحية جودو. مضيفتي التي تركتني بين يدي سيبيروس (1) قالت انها ستتصل بي صباح الغد في الفندق، وأخبرتني أن أستكشف المكتبة بسلام بينما سيطلب لي الحارس سيارة أجرة للعودة للفندق عندما أحتاجها... كيف يمكنني أن أرفض عرضها اللطيف؟ رافقني الحارس إلى باب هائل وقام بفتحه وإيقاد ضوء خفيف، ثم تركني وحدي. سمعت صوت المفتاح بينما أقفل الباب خلفي. ها أنا ذا، في مكتبة كالزنزانة.

هبت نسمة من مكانٍ ما، تأرجحت معها شباك العناكب التي تدلّت من الأرفف كخرق مهترئة من التُلّ، كما لو أنها زجاجات نبيذ قديمة في قبو. كل الغرف تتشابه، يصل بينها ممر ضيق، والنسمة التي لم أتبيّن مصدرها، هبّت في كل مكان.

عند تلك اللحظة، حتى قبل أن ألقي نظرة فاحصة على الكتب (وبعد أن وقع نظري على حرف (C) في أحد المجلدات في الغرفة الثالثة) استوعبت، كل غرفة احتوت على حرف واحد من الأبجدية. وهذا كان الثالث. وبالفعل في القسم التالي كل الكتب كانت موسومة بالحرف (D). فجأة، مدفوعة بحدس غامض، اندفعت راكضة. سمعت دوي خطواتي مشكلةً أصوات صدىً تبددت في الظلمة. بانفعال وبأنفاس منقطعة، وصلت إلى الحرف (M) وبهدف واضح في ذهني فتحت أحد الكتب. تيقنت -ربما قرأت عنه في مكان ما- أنّ هذا هو موسوعة الموتى، العمل المحتفى به. كل شيء اتضح في غمضة عين، حتى قبل أن أفتح المجلد الهائل.

أول ما وقعت عليه عيناي كانت صورته، الصورة الوحيدة، تبرز في منتصف الصفحة التي تتكون من عمودين من النص. كانت الصورة التي رأيتَها في مكتبي. ملتقطة في 12 نوفمبر من عام 1936 في ماريبور، مباشرة بعد انتهاء خدمته في الجيش. أسفل الصورة كان اسمه، وبين قوسين: السنوات (1910-79).

تعلم أن والدي توفي مؤخرًا وأنني كنت مقربة منه منذ صغري. لكن لا أريد الحديث عن ذلك هنا. ما أقلقني هو أنه توفي قبل شهرين فقط من رحلتي إلى السويد. كان أحد أسباب سفري هو رغبتي في الهرب من الأسى. فكرّت، كما يميل لذلك الناس في زمن المحن، أن تغيير المكان سيساعدني في الهروب من الألم، كما لو أننا لا نحمل الأسى بداخلنا أينما ارتحلنا.

بينما أحتضن الكتاب بين ذراعيّ وأميل على الخشب المتداعي للرفّ، بدأت بقراءة سيرته الذاتية بينما تلاشى إحساسي بالزمن. كانت الكتب كما في مكتبات العصور الوسطى، مربوطة بسلاسل حديدية سميكة إلى الأرفف. لم أستشعر ذلك إلا عندما حاولت جرّ المجلد الثقيل إلى مصدر الضوء.

تملكّني الغمّ فجأة، تصورت أني أطلت الجلوس وأن مضيفي السيد سيبيروس (كما قررت أن أسميه) سيأتي ويطلب مني الرحيل. لذلك بدأت بتصفح الفقرات على عجل بينما أجر الكتاب المفتوح إلى أقصى مسافة تسمح بها السلاسل تجاه الضوء الباهت الذي يلقي به المصباح. الطبقة السميكة من الغبار على أطراف المجلدّات وشباك العنكبوت التي تغطيها تدلّ بجلاء على أن أحدًا لم يلمسها منذ زمن بعيد. كانت مقيدة إلى بعضها كعبيد في سفينة، باستثناء أن سلاسلها كانت بلا أقفال.

إذن هذه هي موسوعة الموتى الشهيرة، حدّثت نفسي. كنت أتصورها كتابًا بالغ القدم، كتابًا "مهيبًا"، ما يشبه كتاب الموتى التيبيتي أو الكابالا أو حياة القديسين – أحد بدائع الروح الإنسانية المقصورة فقط على نخبة من البشر؛ وحدهم النساك والأحبار والرهبان من يستمتعون بها. تنبهّت إلى أنني قد أواصل القراءة حتى الفجر بلا دليل ملموس لي أو لوالدتي عما قرأته، قررت حينها أن أنسخ بعض القطع المهمة وأن أكتب ملخصًا لحياة والدي.

الحقائق التي دونتّها هنا في دفتري هي اعتيادية، حقائق موسوعية، لا تعني أحدًا سواي أنا وأمي: أسماء، أماكن، تواريخ. كانت كل ما أمكنني تدوينة على عجالة قبل الفجر. ما يجعل الموسوعة عملًا فريدًا (فضلًا عن كونها النسخة الوحيدة) هو أنها تصوّر العلاقات الإنسانية، اللقاءات، المشاهد – حشد التفاصيل الذي تتكون منه الحياة الإنسانية. عند ذكر (على سبيل المثال) مكان ولادة أبي، التوثيق ليس متكاملًا ودقيقًا فحسب (كرايفتسي، بلدة غلينا، منطقة سيساك، مقاطعة بانجا) بل مصحوبًا أيضًا بتفاصيل جغرافية وتاريخية. لأنها توثق كل شيء. كل شيء. تصوير الريف الذي نشأ فيه والدي كان حيويًا حتى أنه أثناء قراءتي، أو بالأحرى تحليقي بين السطور والصفحات، شعرت أنني في قلبه: الثلج الذي يغطي قمم الجبال البعيدة، الأشجار الجرداء، النهر المتجمد حيث يتزلج الأطفال كما لو كانوا في لوحة لبروغل. بين هؤلاء الأطفال رأيته بوضوح، والدي، رغم أنه لم يكن والدي حينها، وحده هو من سيصبح والدي، من كان والدي. وفجأة اكتسى الريف خضرةً وتفتحت البراعم على الأشجار، بيضاء ووردية، أزهرت شجيرات الزعرور البري أمام عيني، وألقت الشمس بأشعتها على قرية كرايفتسي، قرعت أجراس كنيسة القرية، مائت الأبقار في حظائرها، والانعكاس القرمزي لشمس الصباح لمع على نوافذ أكواخ وأذاب خيوط الثلج المتدلية من المرازيب.

بعدها، كما لو كان كل شيء يحدث أمام عينيّ، رأيت مسيرة جنائزية باتجاه مقبرة القرية. أربعة رجال محسوري الرؤوس حملوا التابوت الخشبي على أكتافهم، وفي مقدمة الجنازة كان رجل يمشي وقبعته في يده، تبيّنت -حيث ذكر ذلك في الكتاب- أنه كان جدي من والدي ماركو، زوج الراحلة. الكتاب يذكر كل شيء عنها كذلك: تاريخ ولادتها، سبب المرض والوفاة، تطورات المرض. يذكر الكتاب أيضًا نوع الأقمشة التي كفّنت فيها، من غسل جسدها، من وضع العملات النقدية على عينيها، من ربط ذقنها، من نحت على الكفن، أين قطعت أخشاب الكفن. قد يمنحك هذا فكرة -ولو محدودة- عن وفرة المعلومات المدونة في موسوعة الموتى بوساطة أولئك الذين أخذوا على عاتقهم المهمة الصعبة والجديرة بالثناء في توثيق – بطريقة لا شك في كونها موضوعية ونزيهة – كل شيء يمكن تدوينه فيما يخص حيوات أولئك الذين أكملوا رحلتهم في الحياة الدنيا ورحلوا إلى دار الخلود. (حيث يؤمن القائمون عليها بمعجزة النشور الإنجيلية، ويجمعون هذا الفهرس الضخم تحضيرًا لتلك اللحظة. حتى يستطيع الجميع أن يجدوا لا رفاقهم البشر فحسب -ولكن الأهم- ماضيهم المنسيّ. عندما يحين الوقت، هذا الملخص سيكون الكنز العظيم للذكريات والدليل الساطع للنشور.) كان واضحًا عدم وجود أي تفرقة فيما يخص الحياة الإنسانية بين تاجر إقليميّ وزوجته، بين كاهن قرية (كما كان جد أبي) وقارع جرس القرية الذي يدعى تشوك والذي يرد ذكره أيضًا في الكتاب. الشرط الوحيد – فكرة خطرت لي بغتة، بدا وكأنها كانت في ذهني قبل أن أتأكد من صحتها- لأن يرد اسم في موسوعة الموتى هو أن لا يرد اسم الشخص في أي موسوعة أخرى. أثار انتباهي منذ البداية بينما كنت أتصفح الكتاب -أحد آلاف المجلدّات التي تحمل الحرف M- غياب ذكر الأشخاص المشاهير. (حصلت على تأكيد فوري بينما كنت أقلب الصفحات بأصابع متجمدة، بحثّا عن اسم أبي.) الموسوعة لم تحوي فصلّا مخصصأ لمازوراني أو مايرهولد أو مالمبيرغ أو ميريتي، الذين وضعوا قواعد اللغة التي درسها أبي في المدرسة، أو ميستروفيش، الذي رآه أبي مرة في الشارع، أو دراغوسلاف ماكسيموفيتش، مدير المخرطة ونائب الحزب الشيوعي الذي كان والدي يعرفه، أو تاسا ميلوخيفيتش، الذي ترجم كاوتسكي، والذي دردش معه والدي مرة في مقهى "القيصر الروسي". كان عملًا لمنظمة دينية أو لطائفة تؤكد أجندتها الديموقراطية على نظرة مساواة لعالم الموتى، نظرة مستلهمة بلا شك من المبادئ الإنجيلية وتهدف إلى تلافي المظلمات الإنسانية ومنح جميع عباد الله مكانًا متساويًا في الأبدية. أدركت بسرعة أيضًا أن الموسوعة لا تنقب في المساحة المظلمة من الزمن والتاريخ، أنها بدأت بعد 1789 بقليل. هذه الطبقة الغريبة من المتعلمين لابد أنها كانت تضم أفرادًا من حول العالم يحفرون بلا كلل وبسرية في خطابات النعي والسير الذاتية، يحللون معلوماتهم، ويقومون بإيصالها إلى المقر الرئيسي في ستوكهولم. (تساءلت لوهلة فيما إن كانت السيدة جونسون أحدهم. هل أحضرتني إلى المكتبة عمدًا، بعدما أفضيت بحزني لها، حتى اكتشف موسوعة الموتى لعلي أجد ذرة من الاطمئنان بقراءتها؟) هذا كل ما استطعت أن أخمنه، كل ما استدللته من عملهم. السبب في سرية عملهم يكمن، كما أظن، في تاريخ الكنيسة الطويل في الاضطهاد، فالعمل على موسوعة كهذه يتطلب قدرًا من السرية لتلافي تأثيرات الغرور الإنساني ومحاولات التخريب.

ما يثير الدهشة ليس سرية نشاطهم فحسب، بل أيضًا أسلوبهم، خليط لا معتاد من الإيجاز الموسوعي والبلاغة الإنجيلية. خذ على سبيل المثال المعلومة الهامشية التي استطعت تدوينها في دفتري: ها هي تتكثف بحدة في أسطر قليلة إلى حد أنها فجأة، كما لو كانت سحرًا، تغمر روح القارئ بمشهد حيوي وتدفق سلس للصور. نجد طفلًا عمره 3 سنوات محمولًا لأعلى جبل في يوم مشمس وقائظ كي يزور جده من والدته، بينما في الخلفية – في المستوى الثاني أو الثالث، إن صحت التسمية – هناك جنود، محصلوا ضرائب، وشرطة، صوت إطلاق مدفع بعيد ونباح مكتوم. نجد تأريخًا بليغًا للحرب العالمية الأولى: دوي قطارات تمر بسوق بلدة، عزف فرقة نحاسية، سكب المياه من عنق مطارة حربية، زجاج يتشظى، رفرفة وشاح امرأة... كل موضوع له قطعة مخصصة، كل حقبة لها جوهرها الشاعري ومجازها – ليست مرتبة زمنيًا بالضرورة بل تأتي كتلاحم غريب بين الماضي، الحاضر، والمستقبل. كيف إذًا يمكننا شرح التعليق الحزين الوارد في الكتاب – "ألبوم الصور" يغطي السنوات الخمسة الأولى من حياته، حيث قضاها مع جده في كوموغوفينا – التعليق الذي ينص، إن لم تخنني الذاكرة على أن "هذه ستكون السنوات الأجمل من حياته"؟ ثم يأتي سيل من الصور المكثفة من طفولة مختزلة، إن صح التعبير، في صور دلالية: أسماء مدرسين وأصحاب، "أجمل سنين" الفتى مع مرور الفصول والمواسم، المطر يبلل وجهًا باسمًا، زلّاجة توبوغان تنزلق إلى أسفل تلة ثلجية، صيد أسماك السلمون المرقطة، وثم – أو في نفس الوقت إن أمكن – جنود يرجعون من ساحات المعركة في أوروبا، مطارة حربية في يد الفتى، قناع غاز محطم مرمي في أحد الخنادق. وأسماء، قصص حياة. الأرمل ماركو يقابل زوجته الجديدة، صوفيا ريبراتشا، أحد السكان المحليين لبلدة كوموغوفينا، العرس، الأنخاب، سباق الخيل في القرية، أعلام وشرائط تخفق في الهواء، مراسم تبادل الخواتم، الأغاني ورقصات الكولو خارج الكنيسة، الفتى مرتديًا قميصًا أبيضًا وغصن من إكليل الجبل يزين صدره.

هنا في دفتري، دونت فقط اسم كرايفتسي أما الموسوعة فتكرس قطعًا دسمة لتدوين ما حدث وقتها، مع ذكر الأسماء والتاريخ. تصف كيف استيقظ يومها، كيف أيقظه صوت طائر الوقواق في الساعة الجدارية من نومه العميق. تحوي أسماء قائدي العربات الخشبية، أسماء الجيران الذين رافقوا الموكب، صورة لناظر المدرسة الذي أشرف على نصح الأم الجديدة للفتى، موعظة الكاهن، كلمات أولئك الذين وقفوا على أطراف القرية لكي يلوحوا أيديهم بالوداع الأخير.

لا شيء مما ذكرته ناقص، لا شيء محذوف، لا حالة الطريق ولا حتى درجة لون السماء، وقائمة ممتلكات رب الأسرة ماركو مكتملة إلى أدق التفاصيل. لا شيء منسي، ولا حتى أسماء مؤلفي الكتب القديمة التي يمتلكها ولا الكتب التمهيدية المليئة بالنصائح، قصص المواعظ، والحكايا الإنجيلية. كل فترة من الحياة، كل تجربة مدونة: كل سمكة تم صيدها، كل صفحة تمت قراءتها، اسم كل نبتة قطفها الفتى في حياته.

وهاهنا أبي كرجل شاب، قبعته الأولى، رحلته الأولى في القطار وقت الفجر. ها هنا أسماء الفتيات، كلمات الأغاني التي كانت تغنى وقتها، نص رسائل الحب التي كتبها، الصحف التي قرأها – شبابه كاملًا مختزلًا في قطعة واحدة.

نحن الآن في ريوما، حيث درس والدي المرحلة الثانوية. ربما يمنحك هذا المثال نبذة عن مدى حصافة -إن أردنا استعمال كلمة تراثية- موسوعة الموتى. المبدأ بسيط، لكن التفاني في تدوين كل شيء، كل ما تكونه الحياة البشرية كفيل بخطف أنفاس الإنسان. ما يرد ذكره هنا هو تاريخ وجيز لريوما، خريطة الأرصاد الجوية، وصف لتقاطع السكك الحديدية؛ اسم دار الطباعة واسم كل ما كان يطبع وقتها – كل جريدة، كل كتاب؛ المسرحيات التي تعرض بتسويق مكاتب السياحة ونشاطات السيرك الجوال؛ وصف لباحة خلفية... حيث ينحني شاب على شجرة أكاسيا هامسًا بكلمات عاطفية أو بالأحرى بذيئة في أذن فتاة (نجد ما قاله الشاب مدونًا). وكل شيء – القطار، المطبعة، فيل السيرك، السكة التي تفترق في اتجاه ساباك – كلها ترد هنا ما دامت ترتبط بالشخص المقصود. توجد أيضًا مقتطفات من أوراق مدرسية: كشف درجات، خربشات، أسماء الزملاء في الصف، حتى السنة ما قبل الأخيرة (الفصل ب) حيث أجرى الفتى محادثة مع البروفيسور ل.د. المحاضر في التاريخ والجغرافيا.

فجأة نجدنا في قلب مدينة جديدة. إنها السنة 1928، الفتى يرتدي قبعة عليها شعار السنة الأخيرة وقد نمى له شارب الآن. (سيبقي على شاربه لبقية حياته. في أحد المرات، منذ فترة ليست بعيدة، انزلق منه موس الحلاقة فحلق شاربه كليّا. عندما رأيته انفجرت بالدموع: كان شخصًا آخر. في دموعي كان يكمن شعورٌ غامضٌ عن مدى شعور الفقد الذي سأحس به عندما يموت). الآن ها هو في كافيه سنترال، ثم في السينما حيث يعزف بيانو بينما يعرض على الشاشة فيلم رحلة إلى القمر. لاحقًا نجده ينظر إلى منشور إعلاني ملصق على جدارية في ساحة جيلاتشيتش، ملصق يعلن -وأذكر ذلك فقط لأنه مدعاة للفضول- عن محاضرة لكريزا. اسم آنا إرميخا – خالة سيعيش لاحقًا في شقتها بشارع جوريسيتش في زغرب – يرد هنا جنبًا لجنب مع أسماء كريزاي، مغني الأوبرا الذي مر مرة بجانبه في البلدة الشمالية؛ إيفان لابوس، الإسكافي الذي أصلح حذائه، وسيدة تدعى أنتي دوتينا، حيث كان يشتري الصامولي من مخبزها.

في سنة 1929 البعيدة، للوصول لبلغراد كان يجب قطع جسر السافا، ربما بنفس متعة الوصول التي يجدها المرء حتى اليوم. عجلات القطار تطقطق بينما يعبر الجسر الحديدي، خضرة نهر السافا بادية، دراجة نارية تطلق صافرتها وتخفف السرعة، وأبي يظهر من أحد نوافذ الدرجة الثانية، متأملًا الأفق الذي تبدو فيه المدينة اللامألوفة. الصباح منعش والضباب يتلاشى رويدًا من الأفق، دخان أسود يتصاعد من فوهّة السفينة سميديرفو، وبوق يعلن مغادرتها إلى نوفي ساد.

باستثناء انقطاعات قصيرة، قضى والدي خمس عشرة سنة تقريبًا في بلغراد، وخلاصة تجاربه – ما مجموعه ثمانية عشر ألف يومٍ وليلة (432,000 ساعة) مكتوب هنا، في كتاب الموتى هذا، في ما يقارب خمسة أو ستة صفحات! وهنا على الأقل بشكل عام يوجد احترام للتسلسل الزمني، تجري الأيام كنهر الزمن، باتجاه المنبع، باتجاه الموت.

في سبتمبر من تلك السنة، 1929، التحق والدي بمدرسة مسح الأراضي، تدون الموسوعة تفاصيل استحداث مدرسة بلغراد لمسح الأراضي و تدرج نص المحاضرة الافتتاحية لمديرها البروفسور ستوكوفيتش (الذي سينضم لاحقًا للمسّاحين الذين سيخدمون الملك والوطن بولاء، حيث وقع على عاتقهم الحمل الثقيل بتخطيط الحدود الجديدة لوطننا). أسماء الحملات المجيدة، والخسائر غير المجيدة في الحرب العالمية الأولى – كاجامكالان، موكوفاتش، سير، كولوبارا، درينا – تتناوب مع أسماء المعلمين والطلاب الذين سقطوا في المعارك، ومع درجات والدي في الجبر، الرسم، التاريخ، الدين، والخط. نجد أيضًا اسم روزا، روزكاندا، فتاة تبيع الزهور التي "غرّر بها" د.م.، كما كان يقال في تلك الأيام، بالإضافة لأسماء بوريفوج-بورا إيليتش التي كانت تدير مقهىً، ميلينكو ازانيا، خياط؛ كوستا ستفاروسكي، الذي كان يمر بمحله كل صباح لتذوق فطيرة برك ساخنة؛ ورجل كان يدع كريتنيتش، الذي غشّه حينما كانا يلعبان الورق. بعد ذلك تأتي قائمة من الأفلام ومباريات كرة القدم التي شاهدها، تواريخ رحلاته إلى أفالا وكوسماي، الأعراس والجنائز التي حضرها، أسماء الشوارع التي سكنها (سيتينجسكا، الامبراطورة ميليكا، جافريلو برينسيب، الملك بيتر الأول، الأمير ميلوش، بوزيشكا، كامينيشكا، كوسماسكا، برانكوفا)، وأسماء المؤلفين لكتبه الدراسية في الجغرافيا والجبر وقياس المسافات، عناوين الكتب التي أحبّها (ملك الجبال، قاطع الطريق ستانكو، ثورة المزارعين)، قداديس الكنائس، عروض السيرك، تمارين الجمباز، الواجبات المدرسية، والمعارض الفنية (حيث تلقت لوحة والدي بالألوان المائية ثناء لجنة التحكيم). نجد أيضًا ذكرًا لليوم الذي دخّن فيه سيجارته الأولى، في حمامات المدرسة مقتديًا بفتى يدعى ايفان جيراسموف، ابن أحد المهاجرين الروس والذي سيأخذه بعد أسبوع لمقهى بلغراد الحافل في تلك الأيام لعرض أوركسترا غجرية مع ضباط وكونتات روس يبكون لعزف الغيتار والبالاليكاس... لا شيء متجاهلًأ: الاحتفال الشعائري بكشف النقاب عن نصب كاليميجدان، تسمم غذائي من الايس كريم الذي اشتراه من زاوية شارع مقدونيا، الحذاء اللامع ذو النهاية المعقوفة الذي اشتراه بالمال الذي أعطاه إياه والده لدخول الامتحانات.

القطعة القادمة تروي رحيله إلى أوزيتشكا بوزيغا في مايو من عام 1933. مسافراً معه في قطار الدرجة الثانية تعيس الحظ جيراسيموف، ابن المهاجر. في مهمتهم الأولى كان مطلوبًا منهما تدوين تضاريس صربيا ورسم خرائط وتفاصيل تضاريسية. تناوبا في حمل المزواة وقضيب القياس بينما يحميان رأسيهما بقبعات من القشّ – إنه فصل الصيف الآن، وأشعة الشمس حارقة – يتسلقان التلال بينما يناديان ويصرخان على بعضهما؛ تبدأ أمطار الخريف بالهطول؛ تبدأ الخنازير بالنبش والماشية بالتململ، ينبغي حماية المزواة من المطر لكيلا تجتذب البرق. في المساءات يشربان السليفوفيتز مع ميلينكوفيتش، مدير مدرسة القرية، غيراسيموف يلعن بالروسية أولًا ثم بالصربية: هذا البراندي ثقيل. غيراسموف المسكين سيموت في نوفمبر من تلك السنة بالتهاب رئوي بينما يقف د.م. على سرير موته مستمعًا لهذيانه المحموم – تمامًا كما سيقف على قبره حانيًا رأسه وقبعته في يده، متأملًا الطبيعة العابرة للوجود الإنساني.

هذا ما تبقى في ذاكرتي، هذا ما دونته في مذكرتي بينما تعجلت التصفح بأصابعي المتجمدة في تلك الليلة (أو بالأحرى الصباح). وتدون تلك القطعة تاريخ سنتين كاملتين، سنتين يسيران بنمط ثابت كما يبدو، حيث يسحب د.م. حامله ومزواته متسلقًا ونازلًا التلال في موسم قطاع الطرق (بين مايو ونوفمبر)، تمر المواسم، تفيض مياه الأنهاء وتنحسر، تخضرّ أوراق الشجر ثم تصفرّ، ووالدي جالسُ في ظل شجرة خوخ مثمرة، ثم يحتمي تحت مرازب أحد المنازل من وميض البرق الذي يضيء السهل المظلم بينما يدوي الرعد عبر الأودية.

ها هو الصيف، الشمس ملتهبة ومساحونا (لديه الآن شريك جديد اسمه دراجوفيتش) يتوقفون عند منزل (تدون الموسوعة اسم ورقم الشارع) في فترة الظهر، يطرقون الباب طالبين شربة ماء. تخرج من المنزل فتاة حاملة معها جرّة من ماء بارد، كما لو كانت في حكاية شعبية. هذه الفتاة – كما حزرت غالبًا – ستكون والدتي.

لن أحاول هنا أن أستحضر ذلك كله من ذاكرتي، كل شيء، الطريقة التي دوّن ووثّق هنا – تاريخ وطبيعة فترة الخطوبة، الزواج التقليدي حيث يصرف المال بلا حساب، تشكيلة العادات الشعبية التي كانت جزءًا من تلك الحياة: كل ذلك كان ليكون ناقصًا، متشظيًا مقارنة بالنص الأصلي. رغم ذلك، لا أستطيع مقاومة ذكر أن النص يسمّي الشهود والضيوف، اسم الكاهن الذي أجرى المراسم، الأنخاب والأغاني، الهدايا والمهدين، الأطعمة والأشربة. ثم، بهذا التسلسل الزمني، تأتي فترة خمسة أشهر بين نوفمبر ومايو، حيث يستقر الزوجان الحديثان في بلغراد؛ تورد الموسوعة التخطيط المعماري للطابق الذي يسكنانه، طريقة توزيع الأثاث، سعر الموقد والسرير والدولاب، بالإضافة إلى تفاصيل حميمية معينة التي حينما تذكر تكون دائمًا ما تتشابه بشدة بقدر ما تختلف بشدة. ففي النهاية – وهذا ما أعتبره الرسالة المركزية لجامعي الموسوعة – لا شيء في تاريخ الإنسانية يتكرر، الأشياء التي تبدو في الوهلة الأولى متطابقة لا تكاد تتشابه حتى؛ كل فرد هو نجم بذاته، كل شيء يحدث دائمًا ولا يحدث أبدًا، كل الأشياء تعيد نفسها بلا نهاية وبلا أن تتكرر. (لهذا السبب يصر مؤلفو هذا الصرح السحري من التنوع الذي تشكله موسوعة الموتى على فكرة الفردانية؛ لهذا السبب كل حياة إنسانية هي مقدسة بالنسبة لهم.)

لولا هذا الهوس لجامعي الموسوعة بفكرة فرادة حياة كل إنسان وتفرّد كل حدث، ماذا ستكون الفائدة من ذكر أسماء الكاهن والمسجل، وصف فستان الزفاف، أو اسم جليديتش، قرية تقع بقرب كرالجيفو، إلى جانب كل تلك التفاصيل التي تربط الإنسان بالمكان؟ أما الآن فنحن نصل إلى وصول والدي "إلى الميدان"، إقامته ما بين مايو إلى نوفمبر – موسم قطاع الطرق مرةً أخرى – في قرىً مختلفة. نجد اسم جوفان رادوجكوفيتش (الذي في نزله، في تلك المساءات، شرب المساحّون النبيذ على الحساب) واسم طفل، سفيتوزار، الذي أصبح الحفيد الروحي لوالدي بطلب من من يدعى ستيفن جانجيتش، واسم د. ليفستيك، منفي سلوفيني صرف لوالدي علاجات لالتهاب المعدة، واسم فتاة تدعى رادميلا-رادا مافريفا، التي تقلّب برفقتها على أكوام التبن في أحد الاسطبلات.

أما عن خدمة والدي العسكرية، فالكتاب يتتبع المسيرات التي قطعها مع الكتيبة الخامسة التي كان مقرها في ماريبور، ويعدد الأسماء والرتب للضباط وضباط الصف، وأسماء الجنود في الثكنات التي أقام بها، جودة الطعام في تلك الفوضى، إصابة في الركبة تلقاها في مسيرة ليلية، تقريع تلقاه لإضاعته قفازًا، اسم المقهى الذي احتفل فيه بنقله إلى بوزاريفاك.

للوهلة الأولى قد تبدو كأي خدمة عسكرية أخرى، أي نقل، أما من وجهة نظر الموسوعة فكل من نقل والدي إلى بواريفاك والشهور السبعة التي خدمها في الثكنات كانت أحداثًا فريدة: لن تتكرر، لن يتكرر أن يقوم مسّاح يدعى د.م. في خريف عام 1935 برسم خرائط بقرب موقد في ثكنات بوزاريفاك مفكرًا في أنها قبل شهرين أو ثلاثة، في مسيرة ليلية، استرق نظرة خاطفة إلى البحر.

البحر الذي لمحه للمرة الأولى في سن الخامسة والعشرين، من سفوح جبل فيليريت في الثامن والعشرين من ابريل 1935 سيبقى معه للأبد – كشفًا إلهيًا، حلمًا سيراوده لما يربو على أربعين سنة بحدة لا تخبو، سرًا، نظرةً لن يمكنه وصفها بالكلمات. بعد كل تلك السنين لن يكون بمقدوره الجزم إن كان ما رآه هو البحر أو مجرد بريق الأفق، وسيبقى البحر الحقيقي لديه هو ذلك اللون الأزرق في الخرائط حيث تتغير درجة الزرقة بحسب عمق المياه.

ذاك كان السبب، فيما أظن، لرفضه الدائم لفكرة الذهاب في عطلة للسياحة، حتى عندما أرسلت منظمات الإتحاد ووكالات السياحة الناس أفواجًا إلى المنتجعات الساحلية. كانت معارضته تخفي قلقًا شاذًا، خوفٌ من الوهم، كما لو أن رؤية البحر عن قرب ستدمّر بطريقة ما تلك الرؤية البعيدة التي بهرته في الثامن والعشرين من ابريل 1935 عندما لمح للمرة الأولى، من مسافة بعيدة وعند طلوع الفجر، الزرقة المجيدة للبحر الأدرياتيكي.

كل الأعذار التي اختلقها لتجنّب لقاء البحر لم تكن مقنعة أبدًا: لا يريد أن يقضي الصيف كسائح فاحش، لا يستطع أن يجمع المال (والذي لم يكن بعيدًا عن الصحة)، لا يستطيع تحمل حرارة الشمس (رغم أنه قضى حياته متعرضًا لحرارة لا تطاق)، وهل يمكننا رجاءّ أن نتركه بسلام. البقاء في بلغراد خلف الستائر المعتمة كان يروق له. علاقته العاطفية مع البحر موثقة بتفصيل شديد في هذا الفصل من موسوعة الموتى، ابتداءّ من تلك اللمحة الشاعرية في 1935 ووصولًا إلى اللقاء الحقيقي، وجهًا لوجه، بعد ما يربو على أربعين سنة.

حدث ذلك -لقاؤه الأول مع البحر- في 1975 عندما وافق أخيرًا بعد مضايقات جميع أفراد العائلة له على الذهاب مع والدتي إلى روفيني والبقاء في منزل بعض أصدقائهم الذين كانوا يقضون فصل الصيف هناك.

عاد مبكرًا، ساخطًا على الجو، ساخطًا على خدمة المطعم، ساخطًا على البرامج التلفزيونية، ساخطًا على حشود السياح، على المياه الملوثة، على قناديل البحر، على الأسعار وعلى رسوم الطرق السريعة التي وصفها بالسرقة. أما عن البحر نفسه، فيما عدا تذمره من التلوث (السياح يعاملون البحر كحمام عام) وقناديل البحر (رائحة البشر تجذبهم كأنهم قمل)، لم يقل شيئًا، ولا حتى كلمة. تجنب الحديث عنه بتلويحة من يده. الآن فقط، أفهم ما كان يعنيه: الحلم الذي راوده طوال حياته بالبحر الأدرياتيكي، تلك الرؤية البعيدة، كانت أكثر رقة وحدّة، أكثر نقاءً وأقوى من تلك المياه القذرة حيث يتهادى رجال بدناء ونساء ملطخات بالزيوت، "سود كالقار".

كانت تلك هي المرة الأخيرة التي ذهب فيها إلى الساحل في العطلة الصيفية، الآن فقط أفهم أن شيئًا داخله قد مات وقتها، كصديق حميم – حلم بعيد، وهم بعيد (إن كان وهمًا) حمله داخله لأربعين عامًا.

كما ترى، قمت بقفزة مقدارها أربعين سنة من سيرة حياته، لكن اتباعًا للتسلسل الزمني فنحن لا نزال في العامين 1937 و1938 حيث كان لدى د.م. وقتها ابنتان، أنا وأختي (كان أخي لم يولد بعد وقتها)، مولودون في أعماق المناطق النائية الصربية، قرى كبيرتوفاك-في-الملافا، جيجينا، فلاسينا، نجازيفاك، بودفيس. ارسم خريطة للمنطقة في ذهنك مكبرًا كل نقطة في تلك الخريطة وكل مركز عسكري إلى حجمهم الحقيقي، دوّن أسماء الشوارع والبيوت التي سكنها، ثم امش إلى الحديقة الخلفية، إلى المنزل، ارسم خريطة مفصلة للمنزل، دوّن قائمة كاملة بالأثاث والنباتات، ولا تنس أسماء الورود النامية في الحديقة الخلفية للمنزل ولا الأخبار الواردة في الصحف التي يقرأها، أخبار عن تحالف ريبينتروف-مولتوف، عن نزوح العائلة المالكة اليوغوسلافية، عن أسعار الشحم والفحم، عن مآثر الماكر أليكسيتش... هكذا كان أساتذة الموسوعة يعاملونها.

كما ذكرت سابقًا، كل حدث متعلق بمصيره الشخصي، كل قصف لبلغراد، كل تقدم للكتائب الألمانية جهة الشرق وكل تقهقر لها، كل ذلك يذكر بقدر ما يتعلق بحياته الشخصية. هناك ذكر لمنزل في شارع بالموتشيفا مع تدوين تفاصيل المبنى وسكانه، فقط لأنه احتمى (ونحن معه) في قبو المبنى أثناء قصف بلغراد؛ بالطريقة ذاتها، هناك وصف لمنزل ريفي في ستيبويفاك (اسم المالك، التصميم..الخ مذكورة) حيث أبقانا والدي لبقية الحرب، بالإضافة إلى أسعار الخبز، اللحم، الشحم، الدواجن، والخمر. ستجد حديثًا لوالدي مع مدير شرطة نجازيفاك مؤرخًا بعام 1942 معفيًا إياه من مسؤولياته، وإن قرأت بعناية ستراه جامعًا أوراق النباتات في الحديقة أو في شارع بالوموتيتش ايفا بينما يصففهم ويحشرهم مع مجموعات ابنته النباتية، مدونًا أسماء النباتات "دانديليون (تاراكساكوم اوفيشينال)" أو "ليندين (تيليا)" بخط بديع كما كان يدون في الخرائط أسماءً كفلاسينا أو البحر الأدرياتيكي.

هذا النهر الشاسع الذي هو حياته، هذه الرواية العائلية، فروعها تتفرق إلى روافد متعددة، وجنبًا إلى جنب مع تفاصيل وظيفته في مصنع السكر بين عامي 1943-44 يجري وصفًا ملخصًا لقدر والدتنا ونحن، أطفاله – مجلدات ضخمة تتكثف في قطع وجيزة. وهكذا يرتبط استيقاظه الصباحي بوالدتي (هاهي ترتحل إلى قرية أو لأخرى لترهن ساعة قديمة، جزء من مهرها، مقابل دجاجة أو قطع من لحم الخنزير) وبمغادرتنا إلى المدرسة، نحن الأطفال. هذا الطقس الصباحي (أصداء أغنية ليلي مارلين تتردد في الأنحاء قادمة من مذياع في مكانٍ ما من الحي) تعبر عن الجو العائلي في منزل المسّاح المطرود من وظيفته خلال سنوات الاحتلال (الفطور الهزيل مكون من نبتة الهندباء والشابورة) ولإعطاء صورة عن "الموضة" في ذاك الزمان، عندما كان الناس يرتدون أغطية الأذن، أحذية خشبية، ومعاطف جيشية طويلة.

بينما عمل أبي في مصنعة ميليسيتش للسكر كان يخبئ في معطفه دبس السكر ليحضره لنا في مجازفة خطيرة، معلومة كهذه لها نفس الأهمية في الموسوعة كالغارة التي شنّت على عيادة العيون التي تقع بجانب منزلنا مباشرة، أو لاختلاسات عمي سفيجا كاراكيسيفيتش، أحد سكان ريوما التقليديين، حيث كان يسرق من نادي الضباط الألمان في شارع الفرنسيين بينما كان يعمل "كمورّد". أحد الطرائف التي كانت من أفاعيل العم سفيجا أيضًا كان أن تعشت عائلتنا لعدة مرات خلال الاحتلال الألماني عشاءً فاخرًا من سمك الشبوط الدسم (حيث ننقعه لليلة في حوض الاستحمام بمنزلنا) ونتبعه بشامبانيا فرنسيا فاخرة من نادي الضباط نفسه "نادي الفرسان الثلاثة"، لم يفلت هذا التفصيل بالضبط من انتباه جامعي الموسوعة. وبالطريقة نفسها واتباعًا لمنطق الموسوعة (لا يوجد شيء هامشي في أي حياة إنسانية، لا توجد هرمية لأهمية الأحداث)، ضمنوا في الموسوعة أمراض الطفولة التي تعرضنا لها – التهاب الغدة والتهاب اللوزتين، السعال الديكي، الطفح الجلدي – بالإضافة إلى غزوات القمل ومشاكل الرئة التي عانى منها والدي (تشخيصهم يتوافق مع تشخيص الدكتور جوروفيتش: انتفاخ في الرئة ناتج عن التدخين المفرط). ولكن ستجد أيضًا نشرة بالخطاب المعلق في سوق بايلونوفا والذي يحوي قائمة بالرهائن المعدمين والذين كان منهم أصدقاء مقربون ورفاق لوالدي؛ أسماء الوطنيين الذين تتدلى أجسادهم من أعمدة التلقراف في تيرازيجي في قلب بلغراد، كلمات الضابط الألماني الذي يطلب رؤية بطاقة تعريفه في مطعم المحطة في نيش؛ وصف لزواج أحد أفراد التشيتنيك(2) في فلاسوتينتشي حيث يطلقون الرصاص الحي في الهواء طوال الليل.

معارك شوارع بلغراد في أكتوبر 1944 توصف هنا من وجهة نظر والدي ومن منطلق منزله بشارع بالموتيفا، المدافع وهي تجر حول البيت والحصان الميت في الزاوية. الضجيج العالي للجرارات العسكرية يخفي أصوات التحقيق الذي يتعرض له الفولكس دويتشه(3) فرانجو هيرمان الذي تتسلل استغاثاته الخافتة من الجدار الرقيق للمبنى المجاور بينما يتولّى أحد ضباط قسم حماية الشعب إقامة العدل والانتقام. أصوات الطلقات النارية المنبعثة من مسدس رشاش في الباحة المجاورة تدوي بشدة وسط الصمت الذي يتلو مرور دبابة سوفييتية، لطخة من الدماء التي تلوث الجدار بينما يراقب والدي من نافذة الحمام، وجثة المسكين هيرمان في وضعية شنيعة – كل ذلك مدونًا في الموسوعة ومصحوبًا بتعليقات من مراقب خفي.

بالنسبة لموسوعة الموتى، التاريخ هو مجموع الأقدار الإنسانية، الحشد الكلي للأحداث سريعة الزوال. لذلك فهي تدون كل تصرف، كل فكرة، كل نفس إبداعي، كل نتوء تضاريسي في الخريطة، كل حفنة من الطين، كل حركة لإخراج طوبة من الركام.

العمل الذي تولاه والدي بعد الحرب كان في مصلحة الأراضي حيث كان يقع على عاتقهم قياس وتدوين السجلات العقارية من البداية، وكما يحدث بعد الاضطرابات التاريخية العظمى، تم إيلاء أهمية قصوى لهذه التفاصيل: جودة أراضً معينة، العقود الصغيرة، أسماء جديدة لقرى ذات مسميات ألمانية وأسماء جديدة لقرى محتلة حديثًا. لا شيء يتم إغفاله كما ذكرت؛ الطين الذي يلطخ أحذيته المطاطية التي اشتراها من جندي سكران، إسهال شديد تعرض به بسبب تناوله لملفوف متعفن في حانة صغيرة في اندجيجا؛ علاقته الغرامية بامرأة بوسنية، نادلة، في سومبور؛ حادثة دراجة هوائية تعرض لها بقرب سانتافير والمفصل المتورم الذي نتج عنه؛ رحلة ليلية على ظهر ناقلة مواشي في الخط الذي يربط بين سينتا وسوبوتيكا؛ شراؤه لأوزة سمينة للاحتفال برأس السنة؛ جلسة السمر مع مهندسين روس في بانوفيتشي؛ خلعه لضرس في الضواحي بالقرب من ساقية بئر؛ سباق تبلل فيه حتى العظم؛ موت المسّاح ستيفا بوجدانوف بعد أن داس على لغم في طرف أحد الغابات، وكان قد لعب معه البلياردو في اليوم السابق؛ تسمم حاد بسبب الكحول في قرية ماركودول؛ رحلة في شاحنة مزدحمة في الطريق الطيني الرابط ن زرينجانين واليمير؛ خلاف مع مدير جديد وهو رجل يدعى شوبوت في مكان ما بالقرب من جاشا تومي؛ شراء طن من فحم بونافيتشي بعد أن توقف في الطابور من الساعة الرابعة فجرًا في محطة قطار الدانوب في درجة حرارة -15 مئوية؛ شراء طاولة طعام رخامية من سوق الخردوات المستعملة؛ إفطار من جبنة "أمريكية" وحليب في كافيتيريا العمال "البوسنيين"؛ مرض ووفاة والده؛ زيارته للمقبرة في اليوم التالي للدفن؛ جدال مرير مع شخص يدعى بيتر جانكوفيتش وآخر يدعى سافا دراجوفيتش لدفاعهم عن الايدولوجيا الستالينية؛ حججهم وحججه المضادة (والتي انتهت بتمتمة والدي "يلع* ** ستالين!").

وهكذا، تغمرنا الموسوعة بأجواء الأزمنة، بأبعادها السياسية.

الخوف الذي عايشه والدي والصمت الذي أتذكره شخصيًا – صمت ثقيل وجائر- يفسره الكتاب كصمتٍ معدٍ: يومًا ما علم أن ذاك البيتر جانكوفيتش نفسه (زميل وله صلة قرابة بوالدي) كان يذهب لمبنى أمن الدولة كل صباح في السادسة للتحدث (بعد وشاية من سافا دراجوفيتش سالف الذكر) وسيصل متأخرًا للعمل، وجهه مسوّد ومتورم من تلقي اللكمات وقلة النوم، وهكذا استمر الوضع لستة أشهر، في السادسة صباحًا من كل يوم حتى تذكر بيتر أسماء بعض الأشخاص الذين شاركوه أوهامه عن الروس واستمعوا لإذاعة موسكو.

تجاوزًا للتفاصيل الجانبية – نزاعات، مصالحات، زيارات للمنتجعات (مذكرات عائلة كاملة في منمنمة)- وتجاوزًا لقائمة الأشياء التي سيحضرها والدي للمنزل والتي تدونها الموسوعة برعاية حميمية، سأذكر فقط مذياعًا من ماركة أوريون، الأعمال الكاملة لماكسيم غوركي، نبتة أولياندر في صندوق خشبي هائل، وبرميل لصنع المخلل، والذين أجدهم أكثر أهمية من بقية الأغراض التافهة المذكورة في الكتاب، بالإضافة إلى القماش المبطن الذي اشتريته له براتبي الأول مع قارورة كونياك احتساها في أمسية واحدة.

غير أن الموسوعة تهتم بأشياء أخرى غير الأغراض المادية: إنها ليست دفتر قوائم مشتريات، وليست قائمة بأسماء كما كتاب الملوك أو سفر التكوين، بالرغم من أنها كذلك جزئيًا؛ انها تتناول المسائل الروحية، رؤى البشر تجاه العالم والإله، مدى اعتقادهم بالحياة بعد الموت، قيمهم الأخلاقية. وهكذا فما يثير الدهشة هو هذا الانصهار الفريد للخارجي والداخلي: فهي تركّز باهتمام على الحقائق الصلبة، ومن ثم تنسج رابطًا منطقيًا بين هذه الحقائق والإنسان الذي تتعلق به، أو بالأحرى بروح هذا الإنسان. وبينما لا يعلق جامعو الموسوعة على بعض الجزئيات الموضوعية – محادثة عن الفروق بين الموقد الحجري والكهربائي (1969)، ظهور بقعة صلع في رأس والدي أو ميله المتزايد للشراهة، شراب البلسان المنعش الذي حضّره من وصفه أخذها من صحيفة بوليتيكا- فإنهما يفسرون ولعه المفاجئ بجمع الطوابع في آخر عمره كتعويض لتقلص قدراته الجسدية. ليس لديهم شك في أن فحص الطوابع عبر عدسة مكبرة يمثل، جزئيًا، الخيالات الناتجة عن الكبت التي تختبئ غالبًا داخل أولئك الأشخاص الرزينين والمستقرين والذين يفتقرون لنزعة السفر أو المغامرة -نفس النظرة الرومنسية البرجوازية المحبطة التي حددت سلوك والدي تجاه البحر. (فهو قد استبدل الرحلات والآفاق البعيدة بأخرى خيالية وأكثر راحة، مستعملًا اهتمام حفيده الأول العابر بمجموعة طوابع الفراشات كغطاء لكيلا يبدو سخيفًا في عيون الآخرين وفي عينه قبل كل شيء).

هذه كما ترى منطقة روحية لا تبعد كثيرًا عن منبع النهر، حيث تتوالى جنائز الأصدقاء والأقرباء واحدة تلو الأخرى بشكل متلاحق مجبرةً أي أنسان -حتى أولئك الذين لديهم ميول أقل للتأمل الصامت من والدي- على التحول إلى فلاسفة، بقدر ما نعرف الفلسفة بأنها تأمل معنى الوجود الإنساني.

ساخطًا على حياته، ومنزعجًا من كآبة الشيخوخة التي لا شيء قد يسكنها، لا بر الأبناء ولا محبة الأحفاد ولا الهدوء النسبي للحياة اليومية، بدأ بالعبوس وأصبح مخمورًا معظم الوقت. عندما يشرب، كان ينفجر في نوبات غضب مفاجئة من شخص بهذا الهدوء وتلك الابتسامة اللطيفة. لاعنًا الرب، الجنة، الأرض، الروس، الأمريكان، الألمان، الحكومة، وكل أولئك الذين تسببوا بتلقيه لهذا المعاش التقاعدي البائس بعدما خدم كعبد طوال حياته، ولكن ما كان يلعنه أكثر من كل شيء آخر هو التلفاز، الذي كان يملأ مساءاته -بصفاقة تقترب من الوقاحة- بالوهم العظيم للحياة.

 في اليوم التالي يستعيد ذاته من جديد، نادمًا بصمت، يتجه إلى الشرفة مطعمًا طائر الحسون، متحدثًا إليه ومصفرًّا معه، يرفع القفص عاليًا بيديه ملوحًا به كما لو كان مصباحًا في ظلمة المحن الإنسانية. أو، خالعًا بيجامته أخيرًا، يرتدي ملابسه بتذمر ويضع قبعته ماشيًا إلى شارع تاكوفسكا، إلى مكتب البريد الرئيسي، ليشتري الطوابع. ثم في فترة الظهيرة، مرتشفًا القهوة بينما يجثم على طرف كرسيه الخشبي وحفيده بجانبه، يرتب الطوابع في البومات بمساعدة ملقاط دقيق.

من فترة لأخرى وفي مراحل اليأس يعبر عن الندم تجاه حياته السابقة، متذمرًا كما يفعل كبار السن: كيف أن الرب لم يسهل له الحصول على تعليم مناسب، كيف سيرحل عن هذه الحياة وهو جاهل، لن يحس يومًا بتلك الملذات الراقية في الحياة، لن يرى بحار ومدن هذا العالم، ولن يعلم أبدًا عن تلك الأشياء التي يعرفها المثقفون والأغنياء.

ورحلته إلى تريستي انتهت بنفس الإحباط الذي رافق رحلته السابقة إلى روفيني.

كان في السادسة والستين من عمره عندما اجتاز الحدود للمرة الأولى بعد قدرٍ لا بأس منه من الشد والجذب. ولم تكن حججه أسهل للدحض أيضًا: الشخص الحاذق لا يذهب إلى بلد لا يجيد لغته؛ ليس لديه نية في أن يحقق ثروة في السوق السوداء؛ ليس لديه رغبة في المعكرونة أو مشروب الكيانتي فهو يفضل الموستار أو الزيلفاكا أو مشروف البروكوبلج الأبيض الذين يستطيع تناولهم في المنزل.

رغم ذلك نجحنا في إقناعه باستخراج جواز سفر.

رجع من السفر متجهمًا، منفعلًأ، محطمًّا: حصلت قطيعة بينه وبين أمي (الحذاء الذي اشترته له سرب المياه وتقلّص) الشرطة فتشتهم ونبشت أمتعتهم في رحلة العودة إلى بلغراد.

لا أحتاج لذكر أن رحلة تريستي -هطول المطر الحاد بينما يحتمي والدي بجدار فندق ادرياتيكو بلا مظلة، ضائعًا ككلب ضالّ وعجوز، بينما تفتش والدتي في الأحذية المعروضة في بونتو روسو- تتلقى تغطية في الموسوعة من النوع المفصل الذي تستحقه. عزاؤه الوحيد في هذه الرحلة البائسة كان شراؤه لبذور بعض الزهور من محل هناك. (لحسن الحظ كانت هناك صور مع ملصقات الأسعار بوضوح فلم يحتج إلى التحدث مع البائعة). "في ذلك الوقت كان د.م. قد أصبح مشتغلًا بزراعة زهور الزينة" كما تعبر الموسوعة. (بعد ذلك نجد سجلًا تفصيليًا للزهور الموزعة على قدور والصناديق في الشرفات الخلفية والأمامية لمنزله).

بدأ في الوقت ذاته بملء أوقات فراغه برسم الزهور في أرجاء المنزل في نوع من العدوى الزهورية. هذا التفجر المباغت لموهبته الفنية جاء مفاجئًا. بدأ الموضوع من سخطه -فقد كان والدي ساخطًا تجاه كل شيء- من الضابط المتقاعد، وهو رسام هاوٍ حيث قام بطلاء الحمام (بينما يغني نشيد "زحف الأنصار" طوال اليوم لكي يضبط ايقاعات فرشاته) تاركًا وراءه مناطق كبيرة غير مطلية وقبيحة، فسرّ والدي عن أكمامه وبدأ العمل بإصرار. بينما فشل في إزالة بعض البقع القاتمة على الجدار، قرر أن يغطيها بطلاء زيتي مجاريًا حدود اللطخات السابقة. وهكذا قدمت الزهرة الأولى -زهرة جرس أو سوسن ضخمة، لا يعلم إلا الرب ماذا كانت- إلى الوجود.

امتدحناه جميعًا. قدم الجيران لرؤية منجزه الفني. حتى حفيده المفضل عبّر عن إعجابه الصادق. وهكذا بدأ كل شيء. الخطوة التالية كانت نافذة الحمام التي ملأها بزهور ذرة زرقاء وضئيلة، بيد أنه تركها منحرفة وغير مكتملة بحيث يترك هذا التصميم المرسوم على الزجاج وهمًا بأن الزهور تحركها الرياح.

ومنذ ذلك الحين، أصبح يقضي أيامه كاملة بالرسم بينما تتدلى سيجارة بين شفتيه. (وفي الصمت نستطيع سماع أزيز رئتيه، كالمنفاخ). الزهور التي رسمها لم تكن تشابه الرسوم في العالم الواقعي، كان يرسمهم على سراويل داخلية قديمة، الأباجورات الصينية، قوارير الكونياك، المزهريات الزجاجية، علب النسكافيه، وعلب السجائر الخشبية. على الخلفية النيلية لمطّارة مياه غازية كبيرة دوّن أسماء مقاهي بلغراد بالخط نفسه الذي استعمله لكتابة أسماء الجزر على الخريطة: البريوني، خليج الكتر، النورس، البحّار، الفجر، مقهى صربيا، بوابة فيدين، بوابة إسطنبول، السكادارليجا، القبعات الثلاثة، الغزالين، تحت الزيزفون، ثلاثة عقود من العنب، الشوماتوفاك، الأيام السبعة، السير على نهر درينا، الكاليماجدن، الكولاراك، الوطن، الفلّاح، أوبرينوفاك، اوبليناك، بلدة دوشان، منبع النهر، السميديرفو، قرن الصيّاد، علامة الاستفهام، الفرصة الأخيرة.

المفارقة الغريبة في وفاته في يوم احتفال حفيده الأول بعيد ميلاده الثاني عشر لم تغب عن انتباه جامعي الموسوعة. ولم يغفلوا أيضًا معارضته لتسميتنا لحفيده الأخير تيّمنًا به. ظننا أننا بذلك سنرضي كبرياءه وأنه سيراها كبادرة اهتمام وامتنان، ولكن كل ما فعله هو التذمر بينما رأيت في عينيه بريقّا من الخوف سيشعّ لاحقًا من خلف نظاراته بعد سنة عندما يوقن أنه نهايته قد حانت أخيرًا. خلافة الجديد للبائد، الخرافة الكونية لتسلسل الأجيال، السلوان العابر الذي يخترعه الإنسان ليجعل من فكرة الموت أكثر قبولًا – في تلك اللحظة اعتبرها والدي كإهانة؛ كما لو أنه بسحرٍ ما، بتسمية الحفيد الجديد باسمه، مهما كان مدى صحته وعافيته فنحن "ندفعه إلى القبر دفعًا." لم أعلم وقتها أنه اكتشف نتوءًا مقلقًا في حَنيّته واعتقد، أو بالأحرى علم، أنه كالدرنة: كانت هناك نبتة غريبة وسامّة تنمو في أحشائه.

يوثّق أحد أواخر الفصول في الموسوعة تفاصيل تشييع الجنازة: اسم الكاهن الذي أجرى الطقوس الأخيرة، وصف أكاليل الزهور، قائمة بالأشخاص الذين شيعوا الجنازة من الكنيسة، عدد الشموع التي أوقدت من أجل روحه، نص النعي الذي نشر في صحيفة البوليتيكا.

تولّى زميله في مكتب مصلحة الأراضي، نيكولا بيشيفيتش، إلقاء الخطبة على نعشه ("الرفيق دجورو خدم وطننا الأب بشرف وتفانٍ قبل الحرب، وأثناء الاحتلال، وبعد الحرب في فترة إعادة الإحياء والبناء لبلدنا المدمّرة والمنكوبة للأسف") وتورد الخطبة بأكملها، لأنه على الرغم من بعض الابتذالات والمبالغات، ورغم بعض الهفوات البلاغية، كانت خطبة بيشيفيتش أمام جثة رفيقه ومواطنه تمثيلًا لجزء من المبادئ والرسالة التي تطرحها موسوعة الموتى العظيمة ("ذكراه ستبقى دومًا وإلى الأبد، الثناء والمجد لروحه!").

حسنًا، يمكن القول إن هذه كانت النهاية، حيث تتوقف ملاحظاتي المدونة. لن أذكر القائمة المؤسفة للأغراض التي تركها وراءه: قمصان، جواز سفر، وثائق، نظارات (ضوء النهار يتلألئ بألم على عدسات فارغة أخرجت للتو من علبتها) – بكلمات أخرى، أعطيت هذه الأغراض لوالدتي من المستشفى في اليوم الذي يلي وفاته. كل ذلك مدوّن بعناية فائقة في الموسوعة؛ لا يوجد ولو منديل منسيّ، ولا حتى سجائر المورافا أو عدد الالوستروفانا بوليتيكا مع أحجية الكلمات المتقاطعة التي حل نصفها بيده.

ثم تأتي قائمة أسماء الأطباء، الممرضات، والزوار، اليوم والساعة التي أجرى فيهما عمليته (حيث قام الدكتور بيتروفيتش بفتح جسده ومن ثم خياطته، مدركًا مدى عبثية هذه العملية؛ كان الورم ممتدًا إلى أعضائه الحيوية). لا أملك القوة لوصف النظرة التي رمقني بها عندما ودعني قبل يوم أو يومين من إجراء العملية؛ تضمنّت نظرته حياة كاملة وكل الرعب الذي يأتي من معرفة الموت. كل ما يمكن أن يعرفه إنسان حي عن الموت.

وهكذا، متجمدةً ودموعي تنسكب، قضيت بضعة ساعات في تصفّح الفصل المختص بوالدي في الموسوعة. فقدت احساسي بالزمن. هل قضيت ساعة في هذه المكتبة المتجمدة؟ أم أن الصباح قد طلع بالفعل؟ كما قلت، فقدت احساسي بالزمن كليّاً. استعجلت لتدوين أكبر قدر من المعلومات استطعت تدوينه؛ أردت دليلًا، لساعات اليأٍس، أن حياة والدي لم تذهب هباءً، أن هناك بشرًا لا زالوا يدونون ويوثقون قيمة كل حياة، كل مصيبة، كل وجود انساني. (عزاء هزيل، لكنه عزاء على أية حال.)

فجأة، بينما أتصفّح الصفحات الأخيرة في الفصل المخصص له، لاحظت زهرةً، زهرة غير اعتيادية، في البداية ظننتها صورة تشكيلية لنبتة محفوظة في عالم الموتى كمثال على فصيلة منقرضة. لكن النص المرفق بها وضّح أنها كانت النمط الذي رسم عليه والدي كل زهوره. بيدين مرتعشتين بدأت بنسخ الرسمة. بدت الرسمة أقرب من أي شيء آخر إلى برتقالة عملاقة مقشّرة ومقطّعة، وتتقاطع مع خطوط حمراء أشبه بالأوعية الدموية. لوهلة شعرت بالإحباط. كنت معتادة على كل رسومات والدي التي رسمها على الجدران، الألواح، القوارير، والصناديق، ولا شيء منها يشبه هذه الرسمة. نعم، قلت لنفسي، حتى هم قد يخطئون! ومن ثم، بعد أن نسخت البرتقالة العملاقة المقشرة في دفتري، قرأت القطعة الأخيرة وأفلتت مني صرخة. استيقظت والعرق يتصبب من جسدي. كتبت فورًا كل شيء استطعت تذكره من الحلم. وهذا هو ما تبقى منه...

هل تعرف ما كانت القطعة الأخيرة؟ أن د.م. بدأ الرسم في الوقت الذي ظهرت عنده أول أعراض السرطان. وأن هوسه برسومات الأزهار توافق تمامًا مع تفاقم مرضه.

عندما عرضت الرسمة على الدكتور بيتروفيتش أكد لي، متفاجئًا، أنها بدت تشبه تمامًا الورم الذي نما داخل أعضاء والدي الداخلية. وأن إزهاره قد استمر لسنوات بلا شك.

 

 

 

(1) سيبيروس: كلب حراسة متوحش بثلاثة رؤوس يحرس بوابة العالم السفلي في الميثولوجيا اليونانية.

(2) التشيتنيك: كتائب صربية متعصبة نشأت في الجيش اليوغوسلافي أثناء الحرب العالمية الثانية، وعادت فلولها للظهور بعد تفكك يوغوسلافيا في التسعينات.

(3) فولكس دويتشه: مسمى يطلق على الأشخاص ذوي اللغة والثقافة الألمانية ممن لا يملكون الجنسية الألمانية.


الاثنين، 3 يناير 2022

Titane: صورة دموية لمجتمع لا إنساني

 


ما هو الإنسان؟ نجد في التاريخ الفكري البشري محاولات متنوعة لوصف طبيعة الكائن الإنساني من منظورات فلسفية مختلفة، تارة نجده حيواناً ناطقاُ أو مفكراً وفي أخرى نجده حيواناً اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً وغيرها من التعريفات ذات الطبيعة الأحادية، هذه المحاولات -بطبيعتها- مختزلة وغير شاملة. زاوية أخرى لتعريف الوجود الإنساني هي تعريفه بطريقة "سلبية"؛ بدل السؤال عن الصفة التي تمنح الإنسان طبيعته يمكن أن نسأل بشكل عكسي: ما الذي ينزع منه إنسانيته؟ نجد مقاربة من هذا النوع في كتاب تزيفيتيان تودوروف (الحياة المشتركة) الذي يركز على علاقة الإنسان بالآخر، لا يمكن تصور حياة إنسانية بلا وجود للأخر، سواء من ناحية قدرة الإنسان البيولوجية على البقاء أو من الناحية النفسية. فيلم Titane للمخرجة الفرنسية جوليا دوكورنو هو فيلم عن معنى ألا تكون إنساناً. الفيلم الفائز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان هو أحد أكثر الأفلام الصادمة والمزعجة التي شاهدتها منذ زمن طويل، ومن التجارب النادرة التي أشعرتني بغثيان حقيقي بعد المشاهدة. الصادم بالنسبة لي في فيلم تيتان ليس المشاهد الدموية أو الجنسية المزعجة أو المقززة، العنف والغرابة يمكن أن تكون سمات بشرية أيضاً، الصادم في الفيلم هو خلوّها من البشرية تماماً، كل فعل صادم في الفيلم هو مفرغ من الحياة، يمكن تفهّم (وانتقاد) أعمال العنف النابعة من عواطف إنسانية كالحقد والانتقام، لكن أعمال العنف المفرغة من أي شعور إنساني والنابعة من كراهية الحياة تثير شعوراً بالغثيان. أثناء مشاهدة الفيلم أثارت طريقة تقديم الفكرة استهجاني، وكنت على وشك مغادرة القاعة في نصف الفيلم، لكن عند نهايته وجدت أنني أتفهم دوافع هذا الاختيار؛ لنقد مجتمع تتلاشى سماته الإنسانية شيئاً فشيئاً، قد يكون الخيار الأنسب هو تقديم عمل ناقد بطريقة فجّة وبشعة.

الحاجة الإنسانية لوسط حاضن وعلاقات اجتماعية مشبعة هي حاجة لا فكاك منها، وما نجده في هذا الفيلم هو صورة لمجتمع تتلاشى فيه القدرة على تكوين هذه الروابط إلى الدرجة التي يحدث فيها الانفصال الكامل بين الإنسان ومحيطه. كل مجتمع انساني له تركيبته الاجتماعية الخاصة التي تحفّز أنماطاً معينة من العلاقات والتصرفات والمشاعر وتنفّر من أنماط أخرى، وتترك هذه التركيبة بالضرورة أثرها على الأفراد، ينطبق هذا الأثر على المجتمعات البدائية كما ينطبق على المجتمعات الحديثة، حيث نجد نماذج لمجتمعات تتماثل في طبيعتها الحضارية يميل بعضها للعنف مثلاً بينما نجد في أخرى طابعاً أكثر سلمية. في المجتمع الصناعي الحديث، قد يكون الفارق الجوهري هو ضعف العلاقات الاجتماعية (الحقيقية) إلى درجة التلاشي. في مجتمع يقضي الفرد فيه ما متوسطه 9 ساعات يومياً في مهنة لا تترك فيه أي شعور بالرضى، ويعاني من ملل وقلق دائمين يولدان رغبة مستمرة بالهرب، يلجأ الإنسان إلى متنفسّات مختلفة: انتماء هوسي لفريق كرة قدم، علاقات عشوائية، سلوك إدماني، هوايات، أو المزيد من العمل، ويبقى رغم ذلك غالباً شعور طاغي بالضجر وعدم الإشباع. وأكاد أزعم (يا رب يسلكون لي أهل طب النفس لأني مو متخصص) أن أصل كل الاضطرابات النفسية هو في اختلال التوازن بين الإنسان ومحيطه وفشله في تكوين علاقات مشبعة وكافية لمنحه الاستقرار النفسي. لذلك في مناقشتي لهذا الفيلم لا أتصوره كفيلم عن العنف أو الاضطراب، بل هو فيلم عن الوحدة بالدرجة الأولى، الوحدة التي لا تعزل الفرد عن مجتمعه فحسب، بل تحرمه القدرة على تكوين الروابط الإنسانية أساساً. في الفيلم نجد صورة تقليدية لطفلة في مجتمع غربي حديث، غير قادرة على التواصل الحقيقي مع والديها، تغوص في عالمها الخاص إلى الحد الذي تنفصل فيه تماماً عن محيطها.

يتناول الفيلم حالة البطلة (اليكسيا)، ويستهلّ بمشاهد قصيرة من طفولة أليكسيا قبل الانتقال إلى حياتها كبالغة، في المشهد الافتتاحي نراها كطفلة في المقعد الخلفي للسيارة، تحاول لفت انتباه والدها بمحاكاة صوت محرك سيارات السباق، يظهر في المشهد انفصالها عن والدها كوضع مستمر، ويشير إلى ولعها الانسحابي بالسيارات الذي يسبق حدوث هذا المشهد (والذي سيتمحور حوله الفيلم) ويشكل المشهد أول مفترق طرق في رحلة انسلاخ اليكسيا من بشريتها، عندما يتجاهل والدها لمحاولاتها ويفشل تمردها في لفت انتباهه تنتقل للمرحلة التالية من التمرد حيث تحاول الهرب للمقعد الخلفي وعندما يحاول منعها يتعرضان لحادث تحتاج بعده لجراحة في جمجمتها وتثبيتها بمادة معدنية، تخرج من المستشفى بعد الجراحة لتقبّل السيارة. في ظل عدم شعورها بالحماية الأبوية أو الأمومية تصبح السيارة هي المنقذة والراعية لها، وبوجود المعدن في رأسها تشعر بالاتحاد مع الآلة. ننتقل من هنا مباشرة إلى أليكسيا الشابة، راقصة متعرية تغري زمرة من الرجال المهووسين بممارسة الرقص الجنسي فوق سيارة. أليكسيا تمعن في انفصالها عن طبيعتها البشرية والتحامها بالآلة لتصبح سلعة هي الأخرى.

إلى حد الآن لا تتبع حياة أليكسيا مساراً استثنائياً، يواجه الإنسان في حياته الكثير من النماذج المتخبطة واليائسة، وفي أسوأ الحالات ينجح المرء في البقاء مع حفنة من العلل النفسية والأمراض المزمنة والمحاولات الدائمة للهرب. يبدأ الفيلم في الانعطاف في مسار جنوني في اللحظة التي تتعرض فيها أليكسيا للتحرش من أحد الرجال الذي يترددون على عروضها، لا يقبل الرجل بامتناعها ويصر على محاولة اقناعها بإعطائه فرصة، يقبّلها داخل السيارة وتبادله القبلة بشغف إلى الحد الذي يظن المشاهد أنها ستطارحه الحب في نفس المكان (محاولة يائسة للشعور بالاثارة ربما؟) لكن ينتهي المشهد بطعنة مباغتة من أليكسيا في رأسه. هناك فجوة في الفيلم ما بين طفولة أليكسيا وهذه الليلة، لكن يمكن الافتراض أن حياتها تمثل سلسلة متواصلة من الخيبات العاطفية والانفصال الدائم عنا المحيط، تتراكم هذه الاحباطات لتصل إلى هذه اللحظة التي يكتمل فيها تحولها إلى كائن لا إنساني، عندما تذهب للاستحمام تتلقى النداء من السيارة في مشهد سيريالي، تسير عارية ومبللة وتدخل إلى السيارة لتمارس الجنس معها. تتحول الآلة إلى المصدر الوحيد للذة، الدفء، والانتماء. تتحول إلى البديل عن التواصل البشري الذي تعجز عن مد جسوره. بعد هذا المشهد تحاول اليكسيا بيأس استعادة جزء من انسانيتها بممارسة جنسية جديدة، ربما يكون السبب الرجال؟ قد تكون العلاقة المثلية هي الحل؟ تلجأ إلى زميلتها الراقصة، لا يمكن وصف الممارسة بينهما بالجنس بقدر ماهي محاولة متخبطة للإحساس بالدفء، تنغمس أليكسيا في صدر زميلتها بحثاً عن الحنان الأمومي الذي تتوق له. بالطبع، لا تفضي هذه المحاولات العشوائية إلى أي إشباع وتنتهي أليكسيا إلى نفس المحصلة الدموية؛ تقتل زميلتها وتقتل معها أي أمل في تحقيق اتصال عاطفي مع كائن بشري آخر، وتنطلق بعدها في حالات قتل مسعورة تنتهي أخيرا بقتل أبيها وأمها.

يجري الفيلم بالكامل من منظور أليكسيا، لا نكاد نجد أي مشهد الا مصوراً من وجهة نظرها، وهذا اختيار مفهوم لتصوير شخصية تعيش في عالمها الداخلي وتفشل في الارتباط بأي إنسان. في المرة الأولى التي نشاهد فيها مشهداً مقدماً من زاوية أخرى هي عند تقديم القطب الآخر في الفيلم: فينسنت، رجل في الخمسينيات من عمره، يعيش وحيداً وينتظر الوصول أي خبر عن ابنه المفقود منذ سنوات. تجد أليكسيا أن خيارها الوحيد للهروب من قبضة الشرطة بعد جرائم القتل المتسلسلة هي في التنكر كابن فينسنت. تقص شعرها وتكسر أنفها بنفسها في الحمام في مشهد مزعج ومثير للغثيان. مجدداً؛ كل مشهد منفر في الفيلم يتم تصويره بتفصيل دقيق، إلى الحد الذي تستشعر معه أن المخرجة تستمتع بتجسيد هذا العنف المرضي، قد يكون هذا الاختيار مزعجاً للمشاهد لكن كما ذكرت له أسبابه الفنية، وإن كنت لا أتفق معها تماماً. عوداً على فينسنت، نشاهده في مشاهد متعددة في الفيلم يحقن مؤخرته بإبرة ستيرويد في محاولة يائسة للحفاظ على شبابه ورجولته. مع فينسنت نشاهد نموذجاً آخر لشخصية غارقة في الوحدة وغير قادرة على تكوين روابط اجتماعية مشبعة، الرجل الذي فقد ابنه وانفصل عن زوجته، يتمحور ارتباطه الوحيد بالعالم في فرقة الإطفاء التي يقودها بحزم. محاولاته اليائسة لاستبقاء شبابه قد لا يكون سببها خوفه من التقدم بالسن، بل ربما هو الخوف من فقدان الرابطة الوحيدة التي يملكها مع العالم ومصدره الوحيد للإشباع العاطفي . الشخصية القاسية لفينسنت تتلاشى أمام احتمالية عودة ابنه. لا يهم أن يكون هو ابنه الحقيقي أم لا، لا يهم أن تكون فتاة أساساً، كل ما يحتاجه هو أن يستطيع منح الرعاية والاهتمام لإشباع عاطفته الأبوية. لا يحاول التحقق من هوية اليكسا ويرفض حتى النقاش بشأنها، بل يحتضنها بعطف وحنان. أليكسا بدورها تحاول الهرب بل وتقدم على محاولة قتله. لكن بعد سلسلة من التوترات، يفلح هذا الدفء الأبوي في استعادة أليكسا لشيء من انسانيتها.

طوال فترة بقاء اليكسا مع فينسنت نراقب بتوتر محاولاتها لإخفاء هويتها وإخفاء حقيقة حملها. تحمل أليكسا بعد ممارستها المحمومة مع السيارة ونرافقها في مراحل حملها وأثناء تسرّب الزيت من جنينها. الفيلم يقدم نظرة تشاؤمية للمجتمع الحديث، لكن هذا المشهد الختامي يجسد ذروة هذه النزعة التشاؤمية، تضع أليكسيا مولودها بمساعدة فينسنت، تلد انساناً بعظام معدنية، كائن جديد نصفه انسان ونصفه آلة، صورة مجازية لجيل قادم في مجتمع مفرغ من العواطف الإنسانية. نجد في الميثولوجيا الإنسانية شواهد متنوعة لاندماج الإنسان بالآخر، من البطل الذي نصفه إله ونصفه بشر في التراث الإغريقي، إلى الكائنات الأسطورية المتنوعة التي تنشأ من ثنائية الإنسان والحيوان، إلى الإنسان الذي أمه من الجن وأبوه من البشر في التراث العربي. جميع هذه الشواهد تشير إلى ارتباط الإنسان بالطبيعة أو بكائنات روحية متجاوزة للطبيعة لميلاد إنسان بطبيعة خارقة أو متجاوزة. بينما نجد الإنسان في النسخة الحديثة من هذه الأسطورة يتحد مع آلة بلا روح صنعها بنفسه، يتمحور حول نفسه ويغوص أكثر في عالم مادي تنسحب فيه العواطف البشرية والانشغالات الروحية إلى الهامش.

 

ملاحظات ملحقة على هامش المراجعة، زاويتين إضافيتين للنظر إلى الفيلم:

عن العنف: كما مر سابقاً، تولّد مجتمعات معينة أنماطاً متباينة من الاضطرابات والميولات النفسية. وأحد المقاربات لفهم دوافع العنف هي في تحليل جذور الاضطرابات التي تعززها مجتمعات معينة لتولّد أفعال العنف. في معرض تحليله للتدميرية البشرية -وإن كان تحليلاً محصوراً في ممارسات العنف التي تولّدها المجتمعات الغربية- يشير إيريك فروم إلى اضطرابين يؤديان دوراً مهماً في ميل او استسهال الأفراد لممارسات عنيفة تجاه الآخرين (أو تجاه الأشياء). الاضطراب الأول هو السادية، الرغبة في السيطرة على الآخر وإيذائه، والثاني هو النيكروفيليا، وهي تعني الانجذاب لكل ماهو ميت، جامد، وبلا روح. النيكروفيليا أساساً تصف الانجذاب الجنسي للجثث، لكن يمكن أن يمتد التعريف ليشمل كل انجذاب لما هو ميت وكره للحياة. حسب فروم، نستطيع أن نصف شخصية ستالين بالسادية، فستالين كان يتلذذ بتعذيب وإيذاء معارضيه، لكن في حالة هتلر فالنيكروفيليا هي الاضطراب الأقرب للصحة. في تحليله النفسي لشخصية هتلر يشير إلى أن شهادات كل معارف هتلر تؤكد بأنه في طفولته لم يكوّن أي علاقة إنسانية مع أقرانه وكان مهووساً بترتيب الدمى العسكرية واللعب بها.

شخصية أليكسيا تمثل تجسيداً مثالياً لهذا الاضطراب النفسي، الانجذاب العاطفي لآلة ميتة وعدم القدرة على تكوين انجذاب مشابه تجاه أفراد آخرين، أظن أن ما يحاول الفيلم قوله هو أنه مع مجتمع يسعى بشكل محموم لمراكمة المقتنيات المادية ويبقى أفراده في حالة انفصال دائم عن محيطهم، هذا النوع من الشخصيات لا بد ان يبرز (وإن كانت أليكسيا تمثل هذا الاضطراب في حالته القصوى). العنف الناشئ عن كره الحياة هو عنف أكثر وحشية وأقل تمييزاً، والخطر الذي يبرزه التطور التكنولوجي الحالي هو في إعطاء مساحة أكبر لممارسة هذا النوع الذي ينزع من الضحية إنسانيتها.

عن الحب في المجتمع الحديث: قبل حوالي سنتين شاهدت تقريراً إعلامياً عن فتاة تصرح عن حبها لطائرة، التقرير الذي يحتفي بهذا الحب الذي يتخطى كافة الحواجز الاجتماعية ولا يعرف شكلاً محدداً ويمكن توجيهه تجاه أي "شيء" كان غريباً وصادماً، وأظن أن فكرة الفيلم قد تكون مستوحاة من حالة مشابهة. الحب في هذه الحالة ليس من قبيل الحب العادي للأشياء التي نمتلكها، بل الحب البديل عن العلاقات البشرية، حب عاطفي وجنسي. يبدو أن الخاتمة المنطقية لتسييل الحب والميولات الجنسية ولهث الأفراد اليائس لتلبية حاجات غير مشبعة في أغرب المصادر الممكنة يكمن في ممارسة الحب مع الممتلكات المادية. 

الاثنين، 25 أكتوبر 2021

Memoria: رحلة إلى الأعماق تنقيباً عن ذكرى قديمة


 

سينما أبيتشابونغ ويراستياكول ليست لكل أحد. بقدر ما تبدو هذه الجملة مبتذلة ونخبوية وخالية من المعنى بقدر ما تعبر بدقة عن الاستقبال المتفاوت الذي تتلقاه أفلامه. المخرج التايلندي الذي يحل ضيفاً دائماً على مهرجان كان تلقى فيلمه (Tropical Malady) صافرات الاستهجان من الحضور، لكنه في النهاية نال الجائزة الكبرى للجنة التحكيم (ثاني أهم جوائز المهرجان). وعاد بعدها بستة سنوات للفوز بالجائزة الأهم (السعفة الذهبية) عن فيلم (العم بونمي الذي يتذكر حيواته السابقة)، لتحتج مجموعة من النقاد الفرنسيين الذين وصفوا الفيلم بالممل وغير القابلٍ للفهم. يعود هذه السنة مع فيلم (ذكرى) الذي فاز مجدداً بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان كان، وهو أول فيلم للمخرج لا تدور أحداثه في تايلند. غالباً ما تصاحب التجربة العالمية الأولى لأي مخرج أجنبي تخوّفات من فقدان "أصالته" عند خروجه من بيئته المعتادة. أبيتشابونغ باختياره كولومبيا لسير أحداث فيلمه لم يبتعد كثيراً عن أجواء تايلند، البلدان متشابهان من نواحي كثيرة سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، والمخرج أمضى عدة أشهر في كولومبيا متجولاً في أنحائها ومتحدثاً مع سكان الأرياف. قد يكون السبب الذي دفع بأبيتشابونغ إلى تصوير فيلمه في أرض أجنبية هو أن الثيمة الأساسية للفيلم هي الاغتراب والبحث عن الجذور، جذور تمتد لعصور ما قبل التاريخ، في مشاهد متعددة نشاهد اهتمام الشخصية الرئيسية بالأحافير في الأمازون والهياكل البشرية التي تعود لعشرات الآلاف من السنين.

شاهدت الفيلم عند عرضه ضمن أفلام مهرجان معهد الفيلم البريطاني، ولا أتذكر أنني رأيت في حياتي هذا العدد من الحضور يغادر القاعة أثناء عرض فيلم، وأتفهم تماماً النفور الذي يشعر فيه كثير من المشاهدين تجاه هذا الاسلوب الذي يتحدى صبر المشاهد. شخصياً، ترددت ابتداءً في حضور الفيلم بسبب تجربتي غير الموفقة مع فيلم العم بونمي عند إصداره قبل عشرة سنوات، أتذكر أنني خرجت بانطباع واحد من الفيلم وقتها: هذه السينما ليست لي. لكن قررت إعطاء فرصة أخرى للمخرج ولم أندم أبداً. عند بداية الفيلم وفي مشهد غريب جداً تبدأ السيارات في مواقف المستشفى بإصدار انذار الأمان بشكل متزامن وبلا أي سبب، استنفدت جهدي في محاولة تفسير المشهد أو ربطه بباقي الفيلم بلا طائل. عندها بدأت أستعيد تجربتي السابقة مع أبيتشابونغ وأتساءل عن الهدف من وجودي في السينما وعن استعدادي لإضاعة ساعتين في مشاهدة هذا الهراء. لكن عندما بدأت أتعامل مع مشاهد الفيلم الغريبة وغير المترابطة كمجموعة أحلام بدلاً من كونها قصة مترابطة، وعندما قررت التماهي مع سير الفيلم وعدم محاولة تفسير كل مشهد فيه والربط بين مشاهده، وجدت أنني بدأت أشعر بالارتباط أكثر مع مشاهده، وفي نهايته كان الشعور الوحيد الذي أحس فيه هو الامتلاء. 

يتناول الفيلم حالة عالمة نباتات بريطانية (جيسيكا) تعيش في كولومبيا، لا نعرف الكثير عنها سوى أنها تسمع صوتاً غريباً باستمرار، أثناء نومها وفي الأماكن العامة وعند وجودها بجانب الآخرين. وطوال الفيلم يسكنها هاجس معرفة مصدر هذا الصوت. تشعر جيسيكا بالانفصال الدائم عن محيطها، تواجه مشاكل في التواصل مع الاخرين ويسود دائماً نوع من سوء التفاهم بينها وبينهم. هناك حاجز اللغة بالتأكيد لكن هناك حاجز آخر أعمق يتبدى في عدم قدرتها على التواصل حتى مع أختها. تتعرف على مهندس صوتيات (هيرنان) يحاول محاكاة الصوت الذي تسمعه، وبعد محاولات حثيثة يستطيع تجسيد هذا الصوت. نشعر بتكون رابطة حقيقية بين البطلة وهيرنان، نستشعر اهتمامه بها ورغبته في مساعدتها، يبدو وكأن جيسيكا وجدت أخيراً ارتباطاً حقيقياً، ولكن عندما تذهب إلى زيارته مرة أخرى في مقر عمله يقال لها أن لا أحد في المبنى بهذا الاسم، تبخر هيرنان تماماً. يواصل الفيلم وكأن شيئاً لم يكن، ولكن في مرحلة لاحقة من الفيلم بينما ترتحل جيسيكا في الريف الكولومبي تشعر باقترابها من مصدر الصوت الذي تسمعه، هناك تصادف رجلاً كبيراً في السن اسمه هيرنان. الحوار مع هيرنان الكهل يجسد ذروة الفيلم وأحد المشاهد السينمائية التي ستبقى خالدة في ذهني بلا شك.

يصعب تمييز الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم في الفيلم، ذكرني هذا الالتباس نوعاً ما بأفلام ساتوشي كون وديفد لينش (مع الاختلاف الشاسع في أساليب الثلاثة). ويمكن فهم الفيلم على عدة مستويات، هل جيسيكا مصابة باعتلال ذهني يمثل هذا الصوت أحد أعراضه؟ يمكن أن تشاهد الفيلم كتجربة إنسان يفقد اتزانه العقلي ويعاني أعراضاً ذهانية. يمكن أيضاً التعامل مع الفيلم ومشاهده كأحلام متفرقة (ما يفسر عدم ترابط المشاهد) لشخص يعاني في التعايش مع واقعه. في الحالتين، المحصلة واحدة. الفيلم هو محاولة للغوص في أعماق شخصية منفصلة عن محيطها، مثقلة بحمل الماضي وباحثة عن جذورها في تربة لا تنتمي لها. ربما هذا الجانب من الفيلم هو ما جعلني أشعر بالارتباط بشكل أكبر مع شخصية جيسيكا، لأني أعيش تجربة مماثلة إلى حدٍ ما، وأستطيع أن أشعر بثقل جملتها وهي تجلس على مقعد في الحديقة مع صديقتها: "أشعر أنني أفقد عقلي".

مع كل مشهد ينتقل إليه الفيلم، شعرت بولوجه إلى منطقة أعمق في لا وعي الشخصية الرئيسية، في المشاهد الأخيرة التي ستؤثر في كل مشاهد بالتأكيد -سلباً أو إيجاباً-، تصل الرحلة إلى خاتمتها وتستطيع جيسيكا ملامسة الذكرى القديمة التي تمثلها الأصوات الخافتة، في نهاية رحلتها تصل إلى الالتقاء بهيرنان الكهل، تخبره عن البلدان التي زارتها ويخبرها أنه لم يغادر هذه القرية الصغيرة طوال عمره: "أنا أتذكر كل شيء"، يخبرها، "أتذكر كل تفصيل من كل يوم في حياتي، أستطيع سماع القصص التي حدثت في هذا المكان منذ آلاف السنين"، وليثبت ذلك، يلتقط حجراً ويخبرها أن الاهتزازات التي تتردد من خلال تخبر عن مشاجرة بين ثلاثة أطفال حدثت منذ آلاف السنين. قد يكون هيرنان هو مجرد ذكرى قديمة عالقة في المكان ولا تستطيع مغادرته، أو على الأرجح –بالنظر إلى أن أبيتشابونغ هو صاحب "العم بونمي الذي يتذكر حيواته السابقة"- هو جيسيكا في حياة سابقة، مرتبط بمكانه لكنه مسكون بالهوس ذاته بذكرى قديمة. الأكيد هو أن حضوره كثيف وطاغٍ رغم قصر ظهوره على الشاشة. ينتهي الفيلم بأحد أغرب المشاهد الختامية التي شاهدتها وأكثرها إثارة للدهشة، لم أمتلك أمامها سوى الابتسام وأن أسأل نفسي: (خبل هذا؟).

لازلت بلا شك أحتاج إلى مشاهدة أخرى لكي أهضم الفيلم بشكل أفضل، وبدون هذه المشاهدة ستبقى قراءة الفيلم ناقصة. لماذا لم أنتظر للمشاهدة الثانية حتى أكتب عن الفيلم؟ هناك نوع من الأفلام يسكن ذهنك لأيام ولا تستطيع تجاوزه، والكتابة عنه هي الفعل الوحيد الذي يساعد على تجاوز التجربة، لا أتذكر أن هذا الشعور حدث لي سوى مع فيلم Satantango لبيلا تار. لا أزعم بأنني استوعبت كل ما يحاول الفيلم قوله، ولا أظن أن مشاهدة أخرى أو مشاهدتين ستغير ذلك، ستبقى أجزاء معينة من العمل عصية على الفهم والتأويل، لكن بطريقة ما، هذا العمق والثراء هو ما يعطي العمل عظمته، وكما يقول شيوران: "اللعنة على الكتاب الشفافين، لا نجاة إلى للكتاب الغامضين. ماقيمة العمل من غير أسرار؟".

الجمعة، 4 يونيو 2021

الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى



إن كان هناك كلمة وحيدة يمكن من خلالها وصف ديفيد غريبر كمفكر، فهي أنه متمرد. هذا التمرد يتجلى في عناوين كتبه وفي مقالاته وإسهاماته الفكرية التي تشترك في سعيها لرواية التاريخ البشري من زاوية مختلفة، ولهدم السرديات المضللة والتي تفسر التاريخ بطريقة حداثية. كتاب غريبر (الدين: الخمسة آلاف سنة الأولى) هو أبرز مؤلفاته والسبب الرئيسي لشهرته، يتناول فيه تاريخ المال (أو الدَّين إن أردنا اتباع خطه السردي). يتوقع القارئ قبل قراءة للكتاب أن يكون أمام عرض تاريخي للاقتصاد ونشأة المال، ولكن عندما تتعرف على أفكار غريبر، تدرك أن آخر ما يسعى لتقديمه هو نظرة "اقتصادية" للعالم، فحسب رأيه، نشوء حقل الاقتصاد نفسه هو سبب في نظرتنا الخاطئة للعالم. يتناول الكاتب الأسس التي نشأ عليها علم الاقتصاد على يد آدم سميث، والمنطلقات المضللة التي بنى عليها سميث أفكاره، يلخّص المؤلف أثر آدم سميث بالآتي: "بعد تأسيس علم الاقتصاد على فرضيات سميث، لم تعد النقاشات حول الأسس مطروحة. استمر النقاش حول صحة النتائج التي يمكن أن تقدمها فرضيته عن السوق، لكن لم يعد أحد يسأل: هل وجود السوق ذاته هو أمر طبيعي؟". بدلاً من تقديم نظرة اقتصادية خالصة لفهم تاريخ المال والسوق والعلاقات الإنسانية، يقدم الكتاب تاريخاً اجتماعياً للعالم (يساعد في ذلك الخلفية الانثروبولوجية للمؤلف)، تبدأ السردية من ديناميكية التعاون عند الشعوب البدائية، ومن ثم التغيرات التاريخية بدءاً من الثورة الزراعية ومروراً بنشوء الدول والأنظمة الأبوية ومن ثم صعود الديانات السماوية ووصولاً للعصر الحديث وهيمنة الرأسمالية.

يبدأ المؤلّف كتابه باستعراض الرواية التقليدية لنشوء المال والتي قدمها سميث في كتابه ولازالت سائدة إلى اليوم. تنطلق هذه الرواية من عالم متخيل في عصر بدائي، عندما يحتاج فرد في هذا العالم الحصول على غرض معين، يضطر إلى مقايضته بغرض آخر يمتلكه، يواجه الناس في هذا النظام معضلة عدم توافق احتياجاتهم مع رغبات الآخرين، فعدم رغبة الطرف الآخر فيما تعرضه سيقف حائلاً دون إتمام المقايضة. لحل هذه المعضلة، تم اختراع المال كوسيط لتبادل السلع. الإشكالية الأساسية في هذا العرض التاريخي هو افتراض أن التبادل التجاري هو نمط التعامل الطبيعي بين البشر وأن "السوق" موجود في كل مجتمع بشري، بينما تثبت الأدلة التاريخية والأنثروبولوجية عدم صحة هذا الافتراض. لا يكاد يمر يوم لا نقرأ فيه نقداً -أو شتيمةً- للرأسمالية وأثرها في حياتنا، لكن دائماً ما أتساءل إن كنا نستطيع فعلاً فهم الأثر التي تتركه في حياة الناس؟ ماذا يعني أن تعيش في عالم غير رأسمالي؟ النقطة الهامة التي يشير لها هذا الاعتراض هو تغلغل هذا التصور في أذهاننا وصعوبة تخيل عالم لا يحكمه السوق، تبدو لنا الرأسمالية هي النظام الطبيعي لسير الحياة منذ الأزل. ولكن على عكس هذا التصور، حضور السوق لم يكن فعّالاً سوى في مراحل تاريخية قليلة من التاريخ البشري وفي بقع جغرافية معينة، ونشأة السوق دائماً ما ارتبطت بعاملين أساسيين: نشوء الدولة، ونشوب الحروب. لم يشكّل التبادل التجاري ووجود السوق جانباً أساسياً في حياة السواد الأعظم من البشر في التاريخ، بل وحتى النقود الذهبية التي نفترض وجودها الدائم (على الأقل خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة) لم يلمسها معظم البشر طوال حياتهم في مناطق مثل أوروبا والصين والهند حتى النصف الأول من الألفية الماضية. بدلاً من التبادلات التجارية اللحظية والعملية والمفرغة من أي مشاعر أو روابط اجتماعية، الشكل السائد للتبادل خلال معظم فترات التاريخ الإنساني كان مبنياً على التكافل الاجتماعي ومصداقية الأفراد والديون المتبادلة بين أفراد المجتمع.

كيف تم "اختراع" المال إن لم تكن الرواية الرأسمالية السائدة دقيقة؟ النقطة الأولى التي يشير إليها الكاتب قبل الإجابة على هذا السؤال هي أن وصف المال بالاختراع ليس دقيقاً لأنه يسقط مفهومنا الحالي للمال كماهية ذات وجود مادي مستقل، بينما لم يكن المال في أجزاء كبيرة من التاريخ الإنساني سوى تصوّر ذهني مجرد؛ وحدة قياس خيالية تنظم التعاملات بين أفراد المجتمع الواحد، لكي يحدد الانسان مقدار ما يدين به لشخص آخر فهو يستعمل وحدة قياس مشتقة من الحياة اليومية للمجتمع الذي ينتميان إليه، تختلف وحدات القياس باختلاف المجتمعات ومواردها ومن الأمثلة على العملات/وحدات القياس: الملح والأصداف والشعير والجواري(!). وخلال النصف الأول من الألفية الماضية كانت التعاملات المالية في أوروبا تقاس بالعملات الرومانية رغم عدم وجودها على أرض الواقع. كانت التعاملات الشخصية تقاس بالمال لكن لم يكن المال نفسه هو ما يتم تداوله.

ما هو النمط السابق للتبادل التجاري إذن؟ يقترح المؤلف: الدّين. وببحث انثروبولوجي مفصّل يتناول تطوّر مفهوم الدّين، وتداخله مع العقائد الأخلاقية والدينية وصورته في الخيال الجمعي الإنساني، والأدلة على وجوده في المرحلة السابقة لتغوّل السوق. في المجتمعات التي يعرف الجميع فيها بعضهم، لا يكاد يكون هناك أي وجود للتبادل التجاري بين أفراد المجتمع، والاستثناء الوحيد لذلك هو عند التعامل مع الغرباء. أما بين أفراد المجتمع فالتعاملات تتم على أساس التعاون المشترك الذي يأخذ إما شكل المساعدة، أو الدين. يختلف الدَّين عن التبادل التجاري في أن الأول يستوجب الحد الأدنى من المعرفة والثقة المتبادلة بين الطرفين، أما التبادل التجاري فهو تعامل يفتقر للجانب الشخصي وبنسبة كبيرة للثقة في دوافع الآخر، التبادل التجاري هو عملية لحظية وغير شخصية تنتهي فيه علاقة الطرفين ببعضهما بانتهاء عملية الشراء، على عكس تبادل الديون والخدمات الذي يمتد إلى فترة طويلة ويفترض استمرار العلاقة بين الطرفين. يذكرني ذلك ببيت شعري لخالي رحمه الله قبل 60 عاماً عندما انتقل من البادية إلى المدينة ليعمل سائقاً للأجرة: (كدّ التكاسي ليتنا ما عرفناه**ما شفت ناسن صحبته بالدقيقة!). الديون المتبادلة في المجتمعات الصغيرة هي شكل من أشكال التكافل الاجتماعي واعتماد الناس على بعضهم، يشير المؤلّف إلى مجتمع أفريقي تقوم عوائله بإرسال هدايا إلى بعضها البعض، وعند ارسال هدية مقابلة يحرص المرسل على ألا تتساوى قيمة الهدية الممنوحة والمستقبلة، لأن ذلك يعني أنه تم تسوية الدين وأن المرسل لا يرغب بمواصلة التبادل مع الآخرين وهو ما يشكّل إهانة فظيعة، بدلاً من ذلك يقدم المرء هدية تكون قيمتها أعلى قليلاً أو أدنى قليلاً من الهدية المستقبلة، مما يعني استمرار علاقة تكافلية بين عوائل القرية.

يقدم الكاتب مفهوماً مثيراً للمرحلة السابقة لشيوع التبادل التجاري، يقسّم الاقتصاد إلى اقتصاد بشري واقتصاد تجاري، في المجتمعات البدائية ينعدم وجود الاقتصاد التجاري لكن الاقتصاد البشري يحضر فيها بشكل بارز. يشير مفهوم الاقتصاد البشري إلى التعاملات التي تتضمن منحاً للممتلكات الشخصية إلى طرف آخر في مقابل الحياة الإنسانية! أبرز الأمثلة على هذا النوع من التعامل هما المهر والدية (البحث الخاص لتباين هذين التقليدين في مجتمعات مختلفة مثير للاهتمام). هذا النوع من التعاملات ليس تجارياً، أي أن المبلغ ليس ثمناً للحياة البشرية، فكل عناصر التبادل التجاري لا تتوفر في هذه العملية، يثير تفسير هذه التعاملات جدلاً في الحقل الانثروبولوجي، لكن يميل المؤلّف إلى تفسيرها بأنها إقرار بدين لا يمكن تسديده (وهو تفسير يبدو متكلفاً بالنسبة لي). يشير المؤلّف إلى أن التبادل التجاري ينهي التعامل بين الطرفين المشاركين فيه، لكن دفع الدية مثلاً لا يعني التسوية والتراضي بين الطرفين ولا يذهب الضغينة بينهم، وفي ثقافات كثيرة تميل عوائل القاتل والمقتول إلى تجنب اللقاء ببعضهما إلى الأبد، الدية هنا ليست ثمناً لحياة المقتول، لكنها اعتراف من ذوي القاتل بالذنب المقترف وباستحالة تسويته، اعتراف يهدف للحد من حوادث الثأر ولا يكفّر عن فداحة الجرم. ولذلك يزعم المؤلف أن الديات غالباً تكون محددة مسبقاً ولا تتفاوت بتفاوت مكانة وأهمية المجني عليه، لأنها ليست ثمناً.

أحد أسباب اهتمامي بالكتاب هو الضجة التي تحيط بالعملات الالكترونية مؤخراً والسؤال الذي يلح علي: (ماهو المال؟ وكيف نعرفه؟). أحد أهم الشخصيات في عالم العملات الرقمية تشارلز هوسكنسون يزعم أنه في المستقبل لن نفكر بثرواتناالصغيرة كدولار/يورو/ريال، بينما كمجموعة متنوعة من العملات والقسائم والtokens حيث يمكننا شراء أي شيء بأي نوع من الممتلكات لدينا، ويستطيع البائع الحصول على الثمن بأي شكل يريده. هذا المفهوم بدا لي غريباً وقتها، لكن المثير أن هذا النوع من التبادل ليس غريباً على التاريخ البشري كما يشير الكتاب، بل يزعم المؤلّف أن كل التعاملات في تاريخ الحضارة الإنسانية تمت بهذه الطريقة حتى عهد قريب. لم تكن العملات النقدية رائجة إلا في الومضات القصيرة من عمر الإنسانية التي نشأت فيها أسواق كبرى بسبب عاملي الوجود القوي للدولة والحروب المستمرة، بالإضافة لانتشار العبودية -نظراً للدور المهم للعبيد في سك العملات-. يلاحظ المؤلف أن شيوع العملات النقدية ارتبط بالفترات الأكثر توتراً سياسياً وعسكرياً، وبوجود الجيوش المنظمة حيث لا يمكن إجراء التعاملات بالطرق التقليدية المعتمدة على المعرفة والممتدة لفترات زمنية طويلة، في هذه الظروف تنشأ الحاجة لتعاملات لحظية وغير مبنية على الثقة.

يكاد يكون الاستثناء الوحيد لحضور السوق واستعمال العملات النقدية هو في الحضارة الإسلامية حيث استمر ذلك لقرون طويلة نظراً للتركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمعات المسلمة مقارنة بنظرائها. إشارة الكاتب للاقتصاد الإسلامي مثيرة للاهتمام بالنسبة لي، هناك جوانب كثيرة من تميز الحضارة الإسلامية نفكر فيها عادةً، الحياة الفكرية والتنوع الفكري والاسهامات الفلسفية والترجمة، الإنجازات العلمية المتنوعة، الأعمال الأدبية والفنية والمعمارية، وغيرها. لكن هذا الكتاب لفتني لجانب مهم وهو تعاطي الحضارة الإسلامية مع دور التاجر، والوضع المميز للاقتصاد الإسلامي كسوق مستقل عن الدولة وتشجيع الثقافة الإسلامية للتجارة وتعزيز صورة التاجر المسلم. بالمقارنة مع الحضارات الصينية والهندية والعصور الوسطى الأوروبية، كانت الحضارة الإسلامية متقدمة بسنوات ضوئية من الجانب الاقتصادي. المبحث الخاص بالاقتصاد الإسلامي يستحق القراءة.

ينطلق الكتاب في رحلة طولها 5000 عام من الحضارة الإنسانية يتناول فيها مفهومنا للمال والدين والتبادل التجاري، لكن يتناول أيضاً تداخل هذه المفاهيم مع الفكر الإنساني وأثرها على المجتمعات المختلفة. على سبيل المثال، لماذا تعبر معظم الثقافات عن مفاهيم الواجبات الدينية والاجتماعية كديون يجب تسديدها؟ او لماذا نميل لاعتبار أخذ الدّين فعلاً مستنكراً من الناحية الأخلاقية؟ يصعب حصر مباحث الكتاب لتنوعها لكن أذكر منها بحثه في الاقتصاد البشري وفي نشأة العبودية، أحد الجوانب التي أقدّرها أيضاً في الكتاب تداخل مجالات متنوعة من البحث في أصول الكلمات لغوياً إلى المقارنة بين مجتمعات على درجات متباينة حضارياً وتقنياً، بالإضافة إلى السرد الممتاز للتغيرات التي طرأت على الاقتصاد في أماكن متباعدة من العالم خلال البضعة آلاف سنة الأخيرة. يشكّل الكتاب بلا شك وجبة دسمة للقراءة، وإن كان تفسيره للتاريخ مادياً بدرجة متطرفة في بعض الأحيان وهو أحد أهم مآخذي على الكتاب، بالإضافة إلى الاستطراد المضلل أحياناً وإطالة بعض فصول الكتاب بلا داعِ. عدا عن ذلك، يحوي الكتاب كماً كبيراً من الحقائق والأفكار الصادمة والتي تتحدى السرديات السائدة، لذلك أعتبره قراءة لا غنى عنها للمهتمين. 

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...