الاثنين، 25 أكتوبر 2021

Memoria: رحلة إلى الأعماق تنقيباً عن ذكرى قديمة


 

سينما أبيتشابونغ ويراستياكول ليست لكل أحد. بقدر ما تبدو هذه الجملة مبتذلة ونخبوية وخالية من المعنى بقدر ما تعبر بدقة عن الاستقبال المتفاوت الذي تتلقاه أفلامه. المخرج التايلندي الذي يحل ضيفاً دائماً على مهرجان كان تلقى فيلمه (Tropical Malady) صافرات الاستهجان من الحضور، لكنه في النهاية نال الجائزة الكبرى للجنة التحكيم (ثاني أهم جوائز المهرجان). وعاد بعدها بستة سنوات للفوز بالجائزة الأهم (السعفة الذهبية) عن فيلم (العم بونمي الذي يتذكر حيواته السابقة)، لتحتج مجموعة من النقاد الفرنسيين الذين وصفوا الفيلم بالممل وغير القابلٍ للفهم. يعود هذه السنة مع فيلم (ذكرى) الذي فاز مجدداً بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان كان، وهو أول فيلم للمخرج لا تدور أحداثه في تايلند. غالباً ما تصاحب التجربة العالمية الأولى لأي مخرج أجنبي تخوّفات من فقدان "أصالته" عند خروجه من بيئته المعتادة. أبيتشابونغ باختياره كولومبيا لسير أحداث فيلمه لم يبتعد كثيراً عن أجواء تايلند، البلدان متشابهان من نواحي كثيرة سياسياً واجتماعياً وجغرافياً، والمخرج أمضى عدة أشهر في كولومبيا متجولاً في أنحائها ومتحدثاً مع سكان الأرياف. قد يكون السبب الذي دفع بأبيتشابونغ إلى تصوير فيلمه في أرض أجنبية هو أن الثيمة الأساسية للفيلم هي الاغتراب والبحث عن الجذور، جذور تمتد لعصور ما قبل التاريخ، في مشاهد متعددة نشاهد اهتمام الشخصية الرئيسية بالأحافير في الأمازون والهياكل البشرية التي تعود لعشرات الآلاف من السنين.

شاهدت الفيلم عند عرضه ضمن أفلام مهرجان معهد الفيلم البريطاني، ولا أتذكر أنني رأيت في حياتي هذا العدد من الحضور يغادر القاعة أثناء عرض فيلم، وأتفهم تماماً النفور الذي يشعر فيه كثير من المشاهدين تجاه هذا الاسلوب الذي يتحدى صبر المشاهد. شخصياً، ترددت ابتداءً في حضور الفيلم بسبب تجربتي غير الموفقة مع فيلم العم بونمي عند إصداره قبل عشرة سنوات، أتذكر أنني خرجت بانطباع واحد من الفيلم وقتها: هذه السينما ليست لي. لكن قررت إعطاء فرصة أخرى للمخرج ولم أندم أبداً. عند بداية الفيلم وفي مشهد غريب جداً تبدأ السيارات في مواقف المستشفى بإصدار انذار الأمان بشكل متزامن وبلا أي سبب، استنفدت جهدي في محاولة تفسير المشهد أو ربطه بباقي الفيلم بلا طائل. عندها بدأت أستعيد تجربتي السابقة مع أبيتشابونغ وأتساءل عن الهدف من وجودي في السينما وعن استعدادي لإضاعة ساعتين في مشاهدة هذا الهراء. لكن عندما بدأت أتعامل مع مشاهد الفيلم الغريبة وغير المترابطة كمجموعة أحلام بدلاً من كونها قصة مترابطة، وعندما قررت التماهي مع سير الفيلم وعدم محاولة تفسير كل مشهد فيه والربط بين مشاهده، وجدت أنني بدأت أشعر بالارتباط أكثر مع مشاهده، وفي نهايته كان الشعور الوحيد الذي أحس فيه هو الامتلاء. 

يتناول الفيلم حالة عالمة نباتات بريطانية (جيسيكا) تعيش في كولومبيا، لا نعرف الكثير عنها سوى أنها تسمع صوتاً غريباً باستمرار، أثناء نومها وفي الأماكن العامة وعند وجودها بجانب الآخرين. وطوال الفيلم يسكنها هاجس معرفة مصدر هذا الصوت. تشعر جيسيكا بالانفصال الدائم عن محيطها، تواجه مشاكل في التواصل مع الاخرين ويسود دائماً نوع من سوء التفاهم بينها وبينهم. هناك حاجز اللغة بالتأكيد لكن هناك حاجز آخر أعمق يتبدى في عدم قدرتها على التواصل حتى مع أختها. تتعرف على مهندس صوتيات (هيرنان) يحاول محاكاة الصوت الذي تسمعه، وبعد محاولات حثيثة يستطيع تجسيد هذا الصوت. نشعر بتكون رابطة حقيقية بين البطلة وهيرنان، نستشعر اهتمامه بها ورغبته في مساعدتها، يبدو وكأن جيسيكا وجدت أخيراً ارتباطاً حقيقياً، ولكن عندما تذهب إلى زيارته مرة أخرى في مقر عمله يقال لها أن لا أحد في المبنى بهذا الاسم، تبخر هيرنان تماماً. يواصل الفيلم وكأن شيئاً لم يكن، ولكن في مرحلة لاحقة من الفيلم بينما ترتحل جيسيكا في الريف الكولومبي تشعر باقترابها من مصدر الصوت الذي تسمعه، هناك تصادف رجلاً كبيراً في السن اسمه هيرنان. الحوار مع هيرنان الكهل يجسد ذروة الفيلم وأحد المشاهد السينمائية التي ستبقى خالدة في ذهني بلا شك.

يصعب تمييز الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم في الفيلم، ذكرني هذا الالتباس نوعاً ما بأفلام ساتوشي كون وديفد لينش (مع الاختلاف الشاسع في أساليب الثلاثة). ويمكن فهم الفيلم على عدة مستويات، هل جيسيكا مصابة باعتلال ذهني يمثل هذا الصوت أحد أعراضه؟ يمكن أن تشاهد الفيلم كتجربة إنسان يفقد اتزانه العقلي ويعاني أعراضاً ذهانية. يمكن أيضاً التعامل مع الفيلم ومشاهده كأحلام متفرقة (ما يفسر عدم ترابط المشاهد) لشخص يعاني في التعايش مع واقعه. في الحالتين، المحصلة واحدة. الفيلم هو محاولة للغوص في أعماق شخصية منفصلة عن محيطها، مثقلة بحمل الماضي وباحثة عن جذورها في تربة لا تنتمي لها. ربما هذا الجانب من الفيلم هو ما جعلني أشعر بالارتباط بشكل أكبر مع شخصية جيسيكا، لأني أعيش تجربة مماثلة إلى حدٍ ما، وأستطيع أن أشعر بثقل جملتها وهي تجلس على مقعد في الحديقة مع صديقتها: "أشعر أنني أفقد عقلي".

مع كل مشهد ينتقل إليه الفيلم، شعرت بولوجه إلى منطقة أعمق في لا وعي الشخصية الرئيسية، في المشاهد الأخيرة التي ستؤثر في كل مشاهد بالتأكيد -سلباً أو إيجاباً-، تصل الرحلة إلى خاتمتها وتستطيع جيسيكا ملامسة الذكرى القديمة التي تمثلها الأصوات الخافتة، في نهاية رحلتها تصل إلى الالتقاء بهيرنان الكهل، تخبره عن البلدان التي زارتها ويخبرها أنه لم يغادر هذه القرية الصغيرة طوال عمره: "أنا أتذكر كل شيء"، يخبرها، "أتذكر كل تفصيل من كل يوم في حياتي، أستطيع سماع القصص التي حدثت في هذا المكان منذ آلاف السنين"، وليثبت ذلك، يلتقط حجراً ويخبرها أن الاهتزازات التي تتردد من خلال تخبر عن مشاجرة بين ثلاثة أطفال حدثت منذ آلاف السنين. قد يكون هيرنان هو مجرد ذكرى قديمة عالقة في المكان ولا تستطيع مغادرته، أو على الأرجح –بالنظر إلى أن أبيتشابونغ هو صاحب "العم بونمي الذي يتذكر حيواته السابقة"- هو جيسيكا في حياة سابقة، مرتبط بمكانه لكنه مسكون بالهوس ذاته بذكرى قديمة. الأكيد هو أن حضوره كثيف وطاغٍ رغم قصر ظهوره على الشاشة. ينتهي الفيلم بأحد أغرب المشاهد الختامية التي شاهدتها وأكثرها إثارة للدهشة، لم أمتلك أمامها سوى الابتسام وأن أسأل نفسي: (خبل هذا؟).

لازلت بلا شك أحتاج إلى مشاهدة أخرى لكي أهضم الفيلم بشكل أفضل، وبدون هذه المشاهدة ستبقى قراءة الفيلم ناقصة. لماذا لم أنتظر للمشاهدة الثانية حتى أكتب عن الفيلم؟ هناك نوع من الأفلام يسكن ذهنك لأيام ولا تستطيع تجاوزه، والكتابة عنه هي الفعل الوحيد الذي يساعد على تجاوز التجربة، لا أتذكر أن هذا الشعور حدث لي سوى مع فيلم Satantango لبيلا تار. لا أزعم بأنني استوعبت كل ما يحاول الفيلم قوله، ولا أظن أن مشاهدة أخرى أو مشاهدتين ستغير ذلك، ستبقى أجزاء معينة من العمل عصية على الفهم والتأويل، لكن بطريقة ما، هذا العمق والثراء هو ما يعطي العمل عظمته، وكما يقول شيوران: "اللعنة على الكتاب الشفافين، لا نجاة إلى للكتاب الغامضين. ماقيمة العمل من غير أسرار؟".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...