الأحد، 23 سبتمبر 2018

أفكار على هامش البخلاء



لعل من أعظم الجنايات التي اقترفناها في حق الأدب العربي القديم -او اقترفتها أنا على الأقل- هو النظرة المتعالية تجاهه والتي تتناوله بوصفه أدب سطحي وجامد، ماجعل غبار النسيان يتراكم على هذه الأعمال، خصوصاً في ظل افتتان القارئ العربي بالأدب المترجم والحديث -وهو ما أتفهمه تماماً-. والحديث هنا طبعاً لايشمل الشعر الذي لازال يحافظ على جاذبيته ورونقه ويقاوم مرور الأعوام. أدين بالفضل لعودتي لقراءة النثر العربي القديم لكتابات بعض النقاد الأدبيين الذين سخروا جهودهم لإعادة اكتشاف الأدب العربي القديم وبيان الجوانب الجمالية والفنية فيه، وأبرزهم بالنسبة لي هم محمود شاكر وعبد الفتاح كيليطو. كانت نظرتي تجاه البخلاء التي كونتها من بعض المقتطفات هي أنه كتاب صنفه الجاحظ وجمع فيه نوادر وطرف عن البخلاء مثله في ذلك مثل كتب نوادر الحمقى والمغفلين، لكن قراءتي للكتاب كشفت لي أن هذه النظرة مجانبة للصواب ومجحفة كثيراً بحق الكتاب، وسأحاول في هذه التدوينة بيان الجوانب الفنية والجمالية في الكتاب.
قبل البداية لا أنسى أن أشكر كيليطو على مقاله البديع "صورة البخيل بطلاً" الذي تضمنه كتابه الأدب والارتياب، فهو من أبرز الأسباب التي دعتني لقراءته.



البخل والايديولوجيا

من المهم الانتباه إلى أن موضوع البخل في عصر الجاحظ لم يكن موضوعاً أخلاقياً معزولاً عن الصراعات الفكرية والاجتماعية، فالشعوبيون وظفوا هذا السلاح للنيل من العرب وجمعوا الشواهد الشعرية التي تستفيض في وصف البخلاء -مع الشكر لشعر الهجاء!- للدلالة على تفشي ذلك في العرب، خصوصاً وأن فضيلة الكرم هي أبرز مايفاخر به العربي "ويؤكد ما قلت ما حدثني به طاهر الأسير فإنه قال‏:‏ ومما يدل على أن الروم أبخل الأمم أنك لا تجد للجود في لغتهم اسماً‏.‏يقول‏:‏ إنما يسمى الناس ما يحتاجون إلى استعماله‏.ومع الاستغناء يسقط التكلف‏.‏" الروم ليس في لغتهم مفردة تعني الكرم لأن ذلك لا يكون فيهم بعكس العرب! فالانتقاص من كرم العرب هو من أشنع ما يمكن أن تصفهم به. وفي الكتاب يرد أحد المواقف للدلالة على التوتر بين العرب والعجم في هذا السياق في قصة أبو سعيد المدائني وهو فارسي كان مرابياً وله أساليب مدهشة في التقاضي من دائنيه، من ذلك أنه ذهب ليتقاضى من رجل من ثقيف في بيته -في وقت الغداء للمصادفة البحتة طبعاً- فلما أتى على غدائه كاملاً عابه أحد الحاضرين فغضب وأشهد الحضور أنه عفى عن الثقفي وبرأه من دَينه وكان ذلك بالطبع حيلة ماكرة منه لعلمه بأن الثقفي لن يرضى بذلك، فلما باع الثقفي كل ما يملك ليفي بدينه رفض أبو سعيد قبول الدين وقال "أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قال أنه عربي وأنا مولى‏.فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال وإن لم تفعل فإني لا آخذه‏.‏ فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة حتى طلبوا إليه حتى أخذ المال‏".
 وكذلك استعمل العباسيون هذا السلاح -أي الرمي بالبخل- للنيل من خلفاء الدولة الأموية، وتفنن الرواة في عهد العباسيين برواية القصص والنوادر عن بخل خلفاء الدولة الأموية وسوء أخلاقهم. وحتى في كتاب الجاحظ ترد قصص كثيرة عن شخصيات مهمة في العصر الأموي توصف بالبخل بينما لا يكاد يتناول أي شخصية سياسية مهمة من الدولة العباسية. أما عن البخلاء في الكتاب فأول مايلفت النظر هو أن البخل ليس طبعاً شخصياً فقط، بل يكاد يكون عقيدة يعتنقها البخلاء بكل ماللكلمة من معنى، فمن ناحية يكوّن البخلاء جماعة منظمة، يقيمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، فلا يتهاونون في نصح أو زجر من يتهاون في صرف ماله، من ذلك أنهم سمعوا عن أحد كبارهم تصرفاً غريباً لا يوافق هواهم "قالوا‏:‏ نراك تصنع شيئاً لا نعرفه والخطأ منك أعظم منه من غيرك‏.‏قد أشكل علينا هذا الأمر فأخبرنا عنه فقد ضاقت صدورنا به‏" ثم يخبرهم بعذره فيقولون: "والله لانسائلك بعد اليوم!"
يسعى البخلاء للدعوة لمذهبهم والتشنيع عن المبذرين -أي الكرماء في هذه الحالة- ولتكتمل أركان البروبغندا يصفون أنفسهم بالمصلحين ومذهبهم بالاقتصاد في مقابل السرف والتفريط=الكرم. ومن أكثر المشاهد سيريالية في الكتاب هي حلقة ذكر البخلاء في المسجد، وهي حلقة يجتمعون فيها ويتذاكرون سير سلفهم الصالح وبطولاتهم في التوفير! لتنتهي حلقة الوعظ هذه بطريقة ساخرة "فقبض صاحب الحمار والماء العذب قبضة من حصى ثم ضرب بها الأرض‏.‏ثم قال‏:‏ لا تعلم أنك من المسرفين حتى تسمع بأخبار الصالحين."
ويوضح الجاحظ أن البخل هو فعلاً عقيدة لدى البعض فيصف الخزامي بأنه "كان أبخل من برأ الله وأطيب من برأ الله‏.وكان له في البخل كلام‏.‏هو أحد من ينصره ويفضله ويحتج له ويدعو إليه‏.‏" ويشير إلى تمكنه من نفس أصحابه فيصف أحدهم "لأن يطعن طاعن في الإسلام أهون عليه من أن يطعن في الرغيف الثاني."




البخل والعقل

أظن أن أبرز مميزات كتاب البخلاء هو الجانب العقلاني والجدلي، وذلك لايستغرب من الجاحظ فهو من أئمة علم الكلام وكبار المعتزلة، لذلك جاء كتاب البخلاء مليئاً بالجدل بل وفيه شيء من السفسطة. فالكتاب مليء بالحجج العقلانية التي تجعل من البخل لا أمراً مقبولاً فحسب بل مرغباً به. في الكتاب رسائل طويلة كتبت على لسان البخلاء يحتجون فيها لمذهبهم بطرق مبهرة. والجاحظ له باع بالعبث بالقارئ فحسب محقق الكتاب (طه الحاجري) فالجاحظ ألف رسالة في ذم الوراقين ومدحهم وفي مدح العلوم وذمها. وفي الكتاب ترد رسالة واحدة فقط تمثل الاتجاه المعاكس المنكر للبخل ولكن (وهي الرسالة الوحيدة التي نجد لها رداً) يتلقى صاحبها رداً مفحماً في الذود عن منهج "الإصلاح والاقتصاد". أكثر ما يلفت النظر في الكتاب هو هذا الطبيعة المتناقضة للبخلاء، فهم مذمومون اجتماعياً لسوء خلقهم لكنهم مثيرون للإعجاب بحجتهم وحسن بيانهم. وهم دائماً مايتفاخرون بأنهم يمثلون الجانب العقلي، البخلاء في هذا الكتاب متمردون على التقاليد الاجتماعية السائدة التي تعلي من شأن الكرم (=السرف) وكثيراً ما اقترن في الكتاب ذكر الكرم مع الطيش وخفة العقل والانقياد لسلطة المجتمع. بينما البخيل متسام على هذه العادات قليل الاكتراث بها، وفي الرسالة السابقة نجد في الرد ترفعاً عن مناقشة الكريم من حيث هو فاقد للعقل فيقول: "ولذلك صار العاقل يخدع العاقل ولا يخدع الأحمق لأن أبواب تدبير العاقل وحيلة معروفة وطرق خواطره مسلوكه ومذاهبه محصورة معدودة‏.‏وليس لتدبير الأحمق وحيله جهة واحدة من أخطأها كذب‏.‏" فمحاولة هداية الكرماء وإقناعهم بالحجج العقلية ميؤوس منها فهم حمقى. وهذا طبعاً من أركان البروبغندا فلا نكاد نجد ذكراً للكرم إلا ومعه الحمق والطيش. "سمعنا اسماعيل يقول: أوليس أجمعوا أن البخلاء في الجملة أعقل من الأسخياء في الجملة؟". من الجوانب المثيرة للاهتمام ارتباط الكرم بالشعر في عصر كان الشعر فيه يؤول للذبول إن لم يكن ذبل تماماً، فالشعر والكرم هما من مخلفات الماضي التي لابد من تجاوزها. ولا نجد البخلاء يحتجون بالشعر أبداً بل يكتفون دائماً بالحجج العقلية، وفي المرة الوحيدة التي يستعمل فيها الشعر في سياق الدفاع عن البخل هو في الرد على الرسالة السابقة، ويظهر في الرد كراهيته لاستعمال الشعر لكن ليس من ذلك بد فالطرف الآخر ليس له مرجعية إلى الشعر والتقاليد القديمة فيقول بعدما استنفد حججه العقلية "فإن كنتم الشعراء تفضلون وإلى قولهم ترجعون فقد قال الشاعر...." ثم يورد الشواهد الشعرية التي تؤيد رأيه. ويظهر اقتران الشعر بالكرم في موضع آخر "رأيته وقد أقبل على جماعة مافيها إلا مفسد أو من يزين الفساد لأهله، من شاعرٍ يود لو أن الناس كلهم قد جاوزوا حد المسرفين إلى حدود المجانين ...." ملاحظة :مفسد=كريم.




الجاحظ رائداً للأدب العربي


الجاحظ من أبرز المؤثرين في مسيرة الأدب العربي وتأثيره يرجع إلى عدة جوانب، أولها فصاحته وجمله القصيرة المميزة وأسلوبه السلس في تناول القضايا العقلية. بالإضافة إلى أنه كان من أوائل وأبرز من نسب كتاباته إلى آخرين ليضع بذلك أساساً للأدب النثري الفني. فقبل الجاحظ كانت الكتابات الأدبية تقتصر على ذكر واستعراض مواقف وأحداث وتداول نصوص قيلت في السابق. ولا أعلم كاتباً ألف كتاباً أدبياً وذكر فيه قصصاً مختلقة قبل الجاحظ. بل لم يكتف بنسبة القصص لغير أهلها أو لأشخاص وهميين بل ألف أيضاً كتباً ونسبها لغيره! ولنعلم مدى غرابة هذا التصرف في زمن الجاحظ نقرأ وصف ابن قتيبة القاسي في حقه "والجاحظ من أكذب الناس". كتابة قصص وأحداث مختلقة ونسبتها لأشخاص آخرين كان أمراً مستهجناً في ذلك الوقت. بينما هو أساس الأدب في عصرنا. الجاحظ في ذلك فتح الطريق لمن بعده كأبي حيان التوحيدي الذي استمر على نهجه. بل وأظن أن المقامات تدين بالفضل للجاحظ فهي تسير على نهجه، والجزء الخاص بخالد بن يزيد في كتاب البخلاء يبدو كأنه بذرة لمقامة، فخالد بن يزيد يمتهن الكدية ويستعمل أعقد الألفاظ وأغربها، وهي الرسالة الوحيدة التي وضع الجاحظ شرحاً لها لصعوبة ألفاظها. من العلامات الثورية أيضاً في أدب الجاحظ هو إيراده لكلام ملحون لأنه يرد على لسان شخصيات أعجمية "وإن وجدتم في هذا الكتاب لحناً أو كلاماً غير معرب ولفظاً معدولاً عن جهته فاعلموا أنا إنما تركنا ذلك لأن الإعراب يبغض هذا الباب ويخرجه من حده‏.‏" والجاحظ يعد من الكتاب الممالئين للقارئ فهو يحرص على عدم تملله، فبعد ايراد رسالة طويلة أو مناقشة يدرج بعده طرفاً قصيرة ومشاهد خفيفة ليدفع الملل عن القارئ ثم يعود لنهجه.





للختام فالكتاب ممتع ويستحق القراءة، وبالتأكيد فاق توقعاتي. الطبعة التي قرأتها هي طبعة دار المعارف بتحقيق طه الحاجري وبذل فيها مجهوداً كبيراً للغاية لخدمة الكتاب. رغم أنه وضع التعليقات في قسم منفصل وهو ما أكرهه. لكن له العذر في ذلك لاستطراده في التعليقات التي يساوي حجمها حجم الكتاب تقريباً وأغنت الكتاب كثيراً. أيضاً الكتاب فيه تفصيل لأنواع المآكل والمشارب للمهتمين بالمطبخ القديم :) أليس الكرم مرتبطاً دائماً بالأكل؟

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...