الاثنين، 28 سبتمبر 2020

رحلة إلى الجنوب

 في بداية هذا الشهر قدّمت رسالة الماجستير منهياً بذلك عاماً شاقاً كانت الدراسة هي محوره الرئيس وخلا من الإجازات وفرص التقاط الأنفاس، بإنهاء الحمل الثقيل -المتمثل برسالة الماجستير- حل الصفاء الذهني محل التوتر والضغط، والأوقات المطوّلة التي كرّستها للدراسة تلاشت ووجدت نفسي أمام فراغٍ عذب لأمارس هواياتي وأستعيد اتصالي الاجتماعي بالبشر. فكرة السفر كمكافأة -كما أنها فرصة لتصفية الذهن- كانت مغرية، وفي الظروف الحالية كانت المنطقة الجنوبية وجهة مثالية (على طريقة الخطوط السعودية عندما اعتادت على شكرنا لاختيارها بينما كانت خيارنا الوحيد)، الوقت والظروف كانا مثاليين لتنفيذ المشروع المؤجل لاكتشاف منطقة مجهولة تماماً بالنسبة لي. كانت الخطة الأساسية هي القيام برحلة عائلية مع والدتي وأخواني، لكن مع الانسحابات المتتالية لم يبق سوى أنا وأمي، ولم يكن هناك سبب لإلغاء الرحلة.

والدتي مسكونة بهاجس زيارة الجنوب مذ عرفتها، تحدثنا دائماً عنها كمنطقة فردوسية وخلّابة، ذكرياتها المبهمة عنها من زياراتها القديمة يتزايد سحرها عاماً بعد عام، وتكتسب المنطقة ألقاً وجمالاً -ككل ذكرى جميلة نرعاها ونجمّلها في كل مرة نعود لزيارتها حتى تبدو أحياناً مختلفةً تماماً عن التجربة الحقيقية- ولكن، لم تكن رحلتا أمي السابقتين مثاليتين، تحدثني عنهما في الطريق الذي يبلغ طوله 1500 كم إلى الجنوب: في الرحلة الأولى قبل ما يزيد عن 50 عاماً حسب تقديري أنا، بينما تصر والدتي أن الرقم أقل من ذلك. تلت الرحلةُ وفاة جدي من أمي بينما لم تكن والدتي وإخوانها وأخواتها سوى مراهقين، ونظراً لخطورة الطريق رافقتهم عائلة من الأقارب. انطلقت القافلة الصغيرة المكوّنة من سيارتين صباحاً من الرياض، وبحلول الظهيرة، توقفت الرحلة -التي لابد وأن تستغرق وقتاً أطول بكثير مما اعتدنا عليه الآن- لتجهيز الغداء في ظل أحد "الكباري" على طريق الرياض-مكة. بينما يطبخ الغداء يتجه الأطفال للعب حول السيارة، لا تنسى والدتي أبداً مشهد قريبتها الصغيرة التي انطلقت تلعب قاطعةً الطريق لتدهسها أحد السيارات. توفيت الطفلة من فورها، تتذكر والدتي دائماً ذلك المشهد قبل ما يزيد عن خمسين عاماً: الأم البكماء للطفلة تتلوى على الأرض مصدرةً أنيناً صامتاً ومفجعاً في آن. الأم الصبورة كجمل، والتي اختارتها حماتها زوجةً لابنها لاعتقادها بأنها الوحيدة القادرة على تحمل طباع ابنها النزقة. استمعت بإذعان كما فعلت طوال عمرها لزوجها وهو يقرر دفن ابنتهما في القرية المجاورة واستكمال الرحلة، فمن مات مات، ولا شيء سيعيده أبداً. تقول والدتي أنه بعد مضي كل هذه السنين، معظم من عاش هذه الرحلة قد وافاه الأجل، لكن الأم البكماء لا تزال على قيد الحياة.

أما الرحلة الثانية لوالدتي فقد تلت زواجها من أبي وإنجابها لبضعة من أخواني. وفي هذه المرة أيضاً رافقتها عائلة أخرى، إذ يبدو أن السفر على هيئة أسراب من العوائل كان نمطاً طبيعياً في ذلك الوقت، على الأقل فيما يخص عائلتي. ونظراً لعدم توفر الخدمات "السياحية" فعائلة أخرى تتورط في هذه الرحلة: العائلة التي تتلقى برقية تخبرها بأننا قادمون للزيارة، والزيارة هنا تعني أننا سنتشارك معهم في بيتهم المتواضع والصغير. "القلوب صافية هكالحين" تردد أمي. العائلة المرافقة في الطريق هذه المرة كانت عائلة خالي، وانطلقت الرحلة على متن سيارة واحدة بدل اثنتين: ددسن غمارتين تقل على ظهرها الحديدي حوالي 13 شخصاً. الصغار يقضون الرحلة في الحوض المغطّى. أفكر بمشقة هذه الرحلة فيتصاغر في عيني إرهاق الطريق الطويل. ذكريات أمي من هذه الرحلة التي تعود ل35 عاماً مضت هي ما شكّل الرواية التي ترويها لنا عن الجنوب: طبخ الغداء بين الغيوم، والينابيع الطبيعية التي يأخذون منها الماء، فلا حاجة لحمل "جراكل" الماء في الجنوب، زوجة خالي التي تقوم بالطبخ ثم توّظف قدور الطبخ كطبول بعد العشاء لتغني بينما ترقص أخواتي وبناتها على أنغامها. تروي لي أمي هذه الحكايات ونحن نقترب بمحافظة الحناكية التي تقع على طريق القصيم-المدينة المنورة السريع، يواجهنا "عاصوف" في الطريق وأذكّر أمي بأنها علمتني في صغري بأن العاصوف هو عرس للجن، تلوم الأولين على توريث هذه الخرافات ونواصل الطريق.

عاصوف على الطريق

نشق طريقنا عبر سلسلة من الطرق الصحراوية التي تصل قرىّ متناثرةً ببعضها، نتقاطع مع طريق القصيم-المدينة السريع ثم نواصل السير، نتوجه هذه المرة إلى مهد الذهب. القيادة في الطرق الصحراوية -رغم خطورتها- تفتنني كثيراً، الطريق الذي تحفه المزارع، القرى الصغيرة، والماشية أحياناً. أتذكر "طرق ومدن" لأحمد الحقيل والفصل المفضل لدي الذي يتناول فيه الطرق الصحراوية النجدية، ويقارنها بالطريق السريع الجامد والذي يتجاوز كل مظاهر الحياة ليصل إلى وجهته بأقصر وقت ممكن، فيما تتمايل الطرق الصحراوية يمنةً ويسرةً لتقطع قرىً متناثرة ومنسية. أمر بقرية صغيرة قبل ساعة من المغرب، يفتنني منظر جدار بنشري مهجور، "كفر" يتكئ بكسل على الجدار الملوّث بكتابات موغلة بالقدم فيما شعاع الشمس الباهت يغطي أجزاءً من الجدار، الكاميرا بجانبي، أقرر العودة لالتقاط صورة أو فيديو لجدار البنشري المهجور، لكن نظرة إلى الساعة تغير رأيي، السباق الذي بدأته سيارتي مع الشمس في بداية الطريق يبدو محسوماً الآن: لم يبق سوى أقل من ساعة لكي تغرب الشمس، بينما لم أنتصف حتى الآن في طريقي إلى الطائف. أقرر المضيّ. لا بأس، في رحلة أخرى سأجد الوقت لتأمل كل منظر يستوقفني. أتعزّى بوهم أنه في يومٍ ما، سأنفذ كل هذه الخطط المؤجلة، سأصنع فيلماً قصيراً عن رحلة مشابهة، أو سأقوم بمشروع تصويري لالتقاط حياة الأقليات، القرى المنسية، والأماكن المجهولة التي تتوارى بخجل بينما تتصدّر أخرى -أكثر جرأةً- المشهد السياحي المحلي والاتجاه للاحتفاء بالتراث الشعبي. تغيب الشمس قبل وصولي لمهد الذهب بينما أحث الخطى (العجلات؟) في طريقي الذي يزداد وحشة، تتبدّد الوحشة في ومضات خافة عند مرورنا بقرىّ هادئة أو محطاتٍ متهالكة قبل أن نعود لنغرق في الظلام. أحد هذه النقاط المضيئة على الطريق هو مفترق طرق تقع عليه محطتان متقابلتان تتنقل بينهما أسراب من العمال الوافدين للسمر وتناول العشاء بعد يومٍ شاق، تقع أعيننا على اللافتتين المتجاورتين: فوال الطايف، وخبز تميس فنتذكر أننا لم نأكل شيئاً منذ ساعات ولا مدن قريبة بالجوار، نتوقف على جانب الطريق ونتناول الفول والتميس والزبادي. تقول أمي أنه ألذّ فول ذاقته منذ سنوات، أوافقها، رغم أنني لا آكله عادةً. أواصل الطريق وأصل للطائف قبل منتصف الليل، نجوت من الطريق المظلم بأقل الأضرار، أي بمخالفة ساهر واحدة.

أواصل في الأيام القادمة التنقل بين جبال تهامة، من الطائف للباحة وأخيراً أبها وأطراف جازان، أمر بعدد لا يحصى من القرى الصغيرة والعقبات الممتعة والمرهقة، أحد هذه العقبات هي عقبة الصماء التي تفصل بين رجال ألمع والسودة-أبها، اكتشفت لاحقاً بعد تجاوزها أنها أحد أخطر العقبات على مستوى المملكة -رغم عدم وجود تحذيرات قبلها- تجربة صعود العقبة كانت تحدياً حقيقياً لي وتجربةً مخيفةً لوالدتي. الطريق الضيق الذي يتلوى كثعبان لما يزيد عن 30 كيلومتر صادفت خلاله 8 سيارات متعطلة، بعد التوقف لعدة مرات حتى تنخفض حرارة السيارة استطعت في النهاية تجاوزها بسلام. القيادة في طرق الجنوب ممتعة ومثيرة في آن؛ إن أردت الوصول لمكانً مميز فيجب أن تغامر. أحد هذه الأماكن كان شعف بللسمر في الطريق الواصل بين الباحة وأبها، توقفت وأخذت غدائي من بللسمر وبدأت في صعود الجبل لمدة ثلث ساعة وتناولت غدائي في قمته، تجربة تستحق العناء.

عقبة الصماء من الأعلى

أثناء طريق النزول من شعف بللسمر

بعد استقرارنا في أبها والتجول فيها تلقينا خبراً مؤسفاً بوفاة خال والدتي، الرجل الذي كان حاضراً في حياة أمي منذ طفولتها في البادية الواقعة على حدود العراق، والذي يعدّ -في مجتمعي- من الأشخاص النادرين في حفظهم واستذكارهم للقصص والقصائد الشعبية، أتذكره وقد ناهز الثمانين عاماً يتصدر المجلس في مزرعة على طريق القصيم متلقياً أسئلة الشباب والشيب عن قصص وقصائد يتلوها من ذاكرته وكأنه يقرأ كتاباً، وعندما يتعثر في قصيدة بعد تلاوة عدة أبيات منها يلقي باللوم على الزمن وتداعي الذاكرة وأعين نظرائه من الشيبان الذين يقولون عنه "كمبيوتر". تأثرت والدتي بالخبر وفقدت رغبتها في السفر، عرضت عليها أن نعود من فورنا وكان هذا ما حدث، لملمنا أغراضنا على عجل ووجدت أن أقرب طريق للعودة يبلغ 1400 كم. انطلقت في الساعة الثالثة بعد الظهر في طريق مختلف تماماً عن طريق الذهاب.

بين الذهاب والعودة مررت بمئات القرى الصغيرة بما أنني سلكت طرقاً صحراويةً وقديمة، بعض هذه القرى هجرها أهلها تماماً ولا ترى منها سوى مجموعة بويتات متناثرة على جانبي الطريق ولا يبدو أن أحداً يعيش فيها، قرىً أخرى تتألف من مجتمعات من العمالة الوافدة في ظاهرة تتكاثر في الآونة الأخيرة حيث ينزح أهل القرى إلى المدن الكبرى بحثاً عن الرزق بينما يحتفظون بأملاكهم في "الديرة" التي يرعى فيها العمّال المزارع والماشية، الزحف الوحشي للمدنية يجرّد هذه القرى شيئاً فشيئاً من مظاهر الحياة، فيما قرىً قليلة لا تزال تتشبث بنمط حياتها في عنادٍ للزمن وللظروف. أتأمل التضاريس والسمات المختلفة بين القرى في نجد والشمال بالمقارنة مع قرى الجنوب، الطراز المعماري الجنوبي وألوانه المتنوعة والفاقعة يتناقض مع نظيره المحافظ في الشمال، الماشية والفواكه والأطعمة تتنوع كثيراً على طول الطريق، والطبيعة الديمغرافية للقرى تتنوع، لا تزال كثير من قرى الجنوب -حتى الصغيرة منها- تحافظ على تركيبتها السكانية بينما ينطبق ذلك بنسبة أقل على القرى الشمالية. للأسف لم تتح لي ملاحظة القرى في طريق العودة الذي قطعت معظمه في ليل دامس. استطعت الوصول قبل حلول الفجر بعد أن أتممت أطول رحلة أقطعها دفعة واحدة بلا توقفات تذكر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

موسوعة الموتى - قصة لدانيلو كيس

كما تعلم، ذهبت في العام الماضي إلى السويد بدعوة من معهد أبحاث المسرح. كانت مرشدتي ودليلي في هذه الرحلة سيدة تدعى جونسون، كريستينا جونسون. ...